العنف والصراع الدرامي في الأدب
يتساءل الروائي البريطاني تيم باركس عما إذا كان لا يزال للعنف مكان في الأدب، في مقالة نشرها في الغارديان اخيرا بعنوان «العنف والصراع الدرامي في الأدب» هذا نصها: «لقد افتتن الأدباء القدامى بتجسيد العنف في مؤلفاتهم القصصية، كما شغفوا علاوة على ذلك بالصراع الدرامي، باعتباره الاختبار الحقيقي لأبطالهم . كتب هوميروس في إلياذته: آنذاك أطلق أجاكس بدوره رمحه الدائمة الظل.
وارتطم السلاح الثقيل بالترس المستديرة التي كان يحملها ابن بريام. اخترقت الترس المتألقة من شدة الوميض، وشقت طريقها متخللة الدرع الواقية، مدفوعة إلى الأمام بقوة، مزقت الرداء الطويل الذي كان يغطي خاصرة هيكتور . إلا أنه انحرف قليلاً، وهكذا فقد أنقذ نفسه من موت محقق. أما الآن فها هما الاثنان، وقد أشهر كل منهما رمحه الطويل، وخر ساقطاً على الآخر كما يسقط الأسد على فريسته، أو كما يفعل ذكر الخنزير ، الذي لا يستهان بقوته...».
على الرغم من أنه لم يتسن لي الاستمتاع بهذه المشاهد الملحمية الطويلة.إذ كنت أتخطى ذلك وصولاً إلى المفردات الميتة. إلا أنني تعلمت أن أحب كتاباً أمثال جيمس جويس وفرجينيا ولف وجميع، أولئك الذين لم تتضمن أعمالهم سوى القليل من مشاهد الصراع الدرامي .
وكما يعبر عن ذلك فرانك بدغن صديق جويس فقد كان مؤلف يوليسيس مؤمناً بأن «الكيفية التي يشد بها الرجل رباط حذائه أو يأكل بها بيضته يمكنها أن تكون المفتاح الأفضل للمفاضلة بينه وبين الآخرين على العكس مما يمكن أن يفعله مثلاً ذهابه للحرب ... وكذلك تشير الكيفية التي يقطع بها رغيف الخبز إلى شخصيته على نحو لا يفعله قطعه لرقبة إنسان . إضافة إلى أنه لا يمكن لأي من الاعتداء على الآخرين بالقتل أو الانتحار أن يعبر عن صفة مميزة على نحو ما تعبر عنه طريقة وضع القبعة على الرأس».
إن من الصعب على المرء ألا يشعر هنا بالكره ،الشعور الذي لا يقتصر على الصراع الدرامي القصصي فقط، وإنما يتعداه إلى ما يحدث في الحياة ، وهو نوع من الكره الذكي، الذي يمكن إدراكه، خاصة، وأنه كان قد ظهر ، في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى . والواقع أنه شعور يتقاسمه بلا شك أولئك الذين يهتمون على الدوام بصناعة الأدب والنقد، الذين يميلون بوجه عام إلى التشكيك في الأعمال التي تحتوي على تمثيل موسع للعنف .
غير أنك وإن كنت تفضل رواية يوليسيس على رواية القلب الشجاع ، أو على مشاهد القتال التي تحتوي عليها ملحمة هوميروس لأسباب تتعلق بهذه الجزئية، إلا أنه لا يمكنك التخلي عن الشعور بان جويس كان مخطئاً فيما يتعلق بكل من الشخصيات والأحداث، وأن الكيفية التي يتوجه من خلالها الرجل إلى الحرب أو يتورط في العنف تبدو أكثر أهمية بالنسبة لنا من الطريقة التي نضع بها القبعة على رؤوسنا أو نحمل بها ملعقة البيض .
وكذلك لا يمكن حتى لأي شيء أن يحرك الذهن بالطريقة ذاتها التي تؤثر بها دقيقة واحدة من العنف الجسدي الحقيقي، ذلك الشيء المرعب الذي يذكر بوجودنا المادي الهش في هذا العالم، هذا لو كنا من أولئك المهتمين بالوعي في الأساس.
بعد عشر سنوات أو أكثر من نشر جيمس جويس رواية يوليسيس، قام كل من أورويل ولوري لي أيت أل بحمل بندقيته والتوجه لقتال الفاشية في إسبانيا. ومن ثم تحول تجسيد العنف والصراع إلى رواية جادة لحظة الشعور بالذنب فيما كان المثقفان يقفلان عائدين من بارناسوس لكي يكونا في وضع دفاعي ضد فضائع الدكتاتورية الشمولية.
إن لدينا مثالاً على ذلك مأخوذاً من أعمال قيصر بافيز، أحد معاصري أورويل ومترجم جويس إلى الإيطالية. في رائعته « منزل فوق التلة » 1949 يجد معلم، من تورين، يشعر بالعداء الشديد للفاشية، نفسه عاجزاً عن اللحاق برفاقه في الكفاح المسلح. غير أنه يجد نفسه مكرها على المغادرة إلى الريف من الجانب الآخر لكي تباغته شاحنة محملة بالجنود الفاشيين، يقوم رفاقه بمهاجمتها في وقت لاحق:
كان هنالك انفجار حقيقي، على مقربة منه، في أقصى الطريق. أصوات رشاشات وانفجار قوي. تلته عدة انفجارات، والمزيد من إطلاق النار. توقفت المحركات. وتردد في الهواء عواء الرصاص الحزين. عندما يتوقف يتابع المعلم سيره لكي يصل إلى المشهد الذي يجسد المجزرة:
أحد الجنود ـ بزيه الرمادي المخضر ـ كان منكباً على وجهه بينما قدماه لاتزالان معلقتين في الشاحنة. بقايا دم ودماغ تنساب من مكان اسفل وجنتيه.
وبالنظر إلى عدم اعتياده على مشاهد العنف الجسدي، وإرغامه على مشاهدتها على شاشة التلفاز بشكل يومي، فإن الإنسان الغربي المعاصر معرض باستمرار إلى التذكير بأنه غير ملم بالتجربة الكاملة. والواقع أنه في أثناء خوفه من العنف يجد نفسه مضطراً إلى الافتتان به. وعلى الرغم من بحثه الجاد عن فرصة للقيام بدور البطولة، أو الوحشية، إلا أنه لا يبدو راغباً في لعب دور المغفل.
وبالتالي فلا غرو إذاً في أن تكون هذه الفتنة التي ساعدت توجهات أخلاقية جادة، تبناها كتاب من أمثال أورويل، على تحويلها على جناح السرعة إلى صناعة قصصية متخصصة في إنتاج شخصيات بغيضة تميزها الدكتاتورية لاستخدامها بشكل حصري وبالنيابة عنا في جلب الشعور بالاستمتاع بمشاهدة أبطالنا وهم يقومون بقتل أعداد لا يمكن حصرها من الأعداء المجهولين.
على الرغم من ذلك فإن ثمة توجهات إيجابية أخرى تجاه العنف في الأدب .
حيث يبدو كل من لورنس وهمنغواي شغوفين بالعنف الدرامي باعتباره شكلاً من أشكال المعرفة إذا لم يكن البطولة. أما لورنس، المسالم، فقد كان يبحث عن العنف في كل مكان ما عدا الحرب. كان يفتش عنه لدى النساء في الحب. بالنسبة لهمنغواي، كان متمثلاً في الطبيعة، التي تعيد إلى الإنسان الإحساس بمكانه في هذا العالم. وبعد سنوات، أو على الصفحات، تصبح ذاكرة العنف هي الشيء الذي يقود الذهن على نحو شديد السرعة.
في رواية «ثلوج كليمانغارو» 1938 كتب يقول كان الثلج أيضاً هو الشيء الذي استمر في التساقط طوال الأسبوع الذي شهد احتفالات عيد الميلاد في تلك السنة .... وكانوا ينامون على فراش محشو بأوراق شجر الزان ، كانت اللحظة التي وصل فيها الآبق من الجندية بقدميه الملطختين بالدماء جراء سيره وسط الثلوج.
في شرونز، في صبيحة يوم عيد الميلاد، كانت الثلوج متألقة فتنة حتى أنها كانت ستجرح عينيك لو نظرت من النافذة باتجاه الخارج ثم شاهدتهم كلهم وهم يعودون من الكنيسة متجهين إلى منازلهم.
إن ما يثير الاهتمام هنا هو ذلك التحول ـ في فقرة واحدة ـ الذي على الرغم من خروجه من إطار الانهماك في العنف السياسي إلى الشعور بالسعادة الغامرة، إلا أنه يظل باقياً في إطار العنف «الملحمي» إن ما يفعله همنغواي هو الانتقال بنا إلى شكل من أشكال البطولة، مختلف، ومميز بالحداثة.
بعيد عن البشاعة التي تميز المعارك التقليدية. حيث تسلق الجبال واستخدام الباراشوت والقوارب النهرية. إذ أننا هنا لسنا بصدد البحث عن أسلحة دمار شامل أو العمل على إعادة بلد ما إلى الديمقراطية أو حتى محاولة الكشف عن الأخطار الجمة التي تهدد العالم. هنا لا توجد حتى أية مزاعم للاكتشاف أو الاختراع.
بقلم : تيم باركس
ترجمة : مريم جمعة فرج
الاثنين، 12 أبريل 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق