الاثنين، 17 مايو 2010

إنشاءا فلسفيا من إنجاز تلميذة

منقول
إنشاء فلسفي من إنجاز تلميذة لتحليل ومناقشة نص مع ملاحظات "المصحح"
أقدم لكم في مايلي إنشاءا فلسفيا من إنجاز تلميذة يدرّسها صديقي وزميلي الأستاذ الشبة محمد، كان قد عرض إنشاء هذه التلميذة في منتدى الحجاج ، وبادرت بالتعليق عليه وإبداء بعض الملاحظات
وحيث ان ملاحظاتي لم تتوقف عند مجرد إصدار أحكام بشأن قيمة إنشاء التلميذة، بل تضمنت في الحقيقة تصوري المفصل لممقتضيات الإنشاء الفلسفي والمعايير التي أعتمدها في تصحيح إنجازات المتعلمين وتنقيطها، فقد ارتأيت نشرها هنا على موقعي الشخصي تعميما للفائدة
وغني عن البيان أننا أحوج ما نكون إلى أن ننشر على الملأ تفاصيل هذه العملية الغامضة المسماة تصحيحا، بحيث يخرج المصحح من عزلته الأنطلوجية ليقاسم الغير /المصحح الآخر تجربته، خصوصا وأن التصحيح في مادة الفلسفة يشكل مصدر قلق التلاميذ واوليائهم.. فحري بنا إذن أن ننشر تفاصيل هذه العملية "الخيمائية" العجيبة كما نمارسها، ونناقش بعضنا البعض في وجاهة طريقة التصحيح والتقويم المتبعة، وبدون هذا النشر وبدون ذلك النقاش ستظل قواعد الإنشاء الفلسفي ومعايير التصحيح عرضة للذاتية بل ولــ "السيبة" حيث كل واحد يغني على ليلاه..
أتمنى أن يجد التلاميذ في تفوق هذه التلميذة وفي أخطائها عبرة يستخلصونها، وأن يجد زملائي في ملاحظاتي مادة يستلهمونها أو ينتقدونها (الأمران سيّان) ولمن شاء الانخراط في النقاش، هاهو عنوان الموضوع في منتدى الحجاج: اضغط هنــــــــــا




إليكم الآن النص:

« إننا نكن الاحترام للأشخاص فقط ، وليس للأشياء. فالأشياء قد تثير فينا الميل نحوها بل الحب إن تعلق الأمر بالحيوانات (مثل الخيل والكلاب وغيرها)، كما قد تثير فينا الخوف كما هو الحال حيال البحر أو بركان أو حيوان مفترس، لكنها لا تثير فينا الاحترام أبدا. وهناك أمر يقترب كثيرا من الشعور بالاحترام وهو الإعجاب، والإعجاب بوصفه انفعالا أي دهشة قد يحمل أيضا للأشياء، من قبيل الجبال الشامخة أو الأشياء العظيمة أو الكثيرة أو المسافات الهائلة التي تفصلنا عن الأجرام السماوية أو قوة وسرعة بعض الحيوانات…الخ، إلا أن كل هذه الأشياء ليست من الاحترام في شيء.
وقد يكون فرد ما موضوع حب أو خوف أو إعجاب قد يبلغ حد الدهشة، إلا أنه قد لا يكون مع ذلك موضوع احترام، فمزاجه المداعب أو شجاعته وقوته ومكانته بين غيره من الناس، قد تجعلني أشعر بعواطف من قبيل الحب والخوف والإعجاب. إلا أن ما يظل غائبا هنا هو الاحترام الذي أكنه له. يقول أحد المفكرين: " أنحني أمام سيد كبير، إلا أن عقلي لا ينحني"، وأنا أضيف: " إن عقلي ينحني أمام إنسان ينتمي إلى طبقة دنيا، أجد فيه استقامة الطبع تبلغ حدا لا أجده في نفسي، وعقلي ينحني له سواء سواء أردت أو كرهت.»
حلل وناقش


• إجابة التلميذة:وقد قمت بترقيم فقرات إنشائها تسهيلا للإحالة عليها عند إبداء ملاحظاتي

[1] في حياتنا اليومية العادية نصادف ونتعرف على أشكال مجتمعية وفكرية مختلفة من الناس، فرغم تباين معتقداتهم وأعراقهم ومكانتهم يتساوون في كونهم أناس. فهل نحن مجبرون على احترام الإنسان رغم اختلاف أنماطه أم يمكن تمييز فئة عن أخرى؟ وهل نحن أحرار في اختيار من نحترمهم؟ وهل أفعالنا وأفكارنا تتطابق مع بعضها البعض في علاقتها مع الآخر أم لكل منهما عمل منعزل عن الآخر ؟
إن صاحب النص ينطلق من فكرة رئيسية وهي كون الاحترام مخصص للأشخاص فقط. فماذا نقول عن إعجابنا وحبنا لبعض الأشياء ؟ أهو شعور عاطفي محض أم أنه احترام لها ؟
هذا ما سنبرزه من خلال تحليلنا للنص الذي بين أيدينا.
[2] إن ميلنا للأشياء وحبنا لها أو الخوف منها، كالحيوانات الأليفة أو المناظر الطبيعية، لا يحتم علينا احترامها في نظر صاحب النص. وقد رأى أن للاحترام رفيقا وهو الإعجاب، ورغم ذلك فإن هذا لا يعني أن كل ما نعجب به نحترمه، لأن الإعجاب ناتج عن انفعال ودهشة أما الاحترام فهو قيمة أخلاقية نابعة من الهبة في النفس. وقد ميز صاحب النص بين صنفين من الأشخاص؛ الصنف الأول ليس له في الاحترام شيئا أما الصنف الثاني فهو جدير بالاحترام.
[3] إن الصنف الأول يكون في فرد ذي مكانة اجتماعية – كأحد الملوك أو المشاهير في عصرنا الحالي – أو ذي مزاج مداعب وشجاعة وقوة، فهذا الشخص يلقى منا الحب والإقبال عليه بإعجاب ودهشة، غير أنه يبقى بعيدا عن الاحترام إذ يمكن لنا انتقاده واستبداله في أي وقت.
[4] أما الصنف الآخر، قد لا يكون بارزا داخل المجتمع ولا معروفا بين الناس لا بمكانته ولا بشخصيته لكن مع ذلك ينال منا كل أشكال الاحترام والتقدير، لأننا نجد فيه استقامة في الطبع لا نجدها في أنفسنا، كما جاء ذكره في النص على لسان أحد المفكرين الذي عزز به صاحب النص أفكاره ولخصها في هذه القولة: « إن عقلي ينحني أمام إنسان ينتمي إلى طبقة دنيا أجد فيه استقامة الطبع تبلغ حدا لا أجده في نفسي، وعقلي ينحني له سواء أردت أو كرهت ».
[5] من خلال تحليل النص نرى أن صاحبه يبرز لنا قيمة الشخص الجديرة بالاحترام، فهو يميز الشخص عن باقي الأشياء لأن الأشياء قد تكون محط إعجابنا كسيارة اشتريتها أو قطة أمتلكها، لكن قيمتها تقدر بثمن ويمكننا بيعها أو التخلص منها في أي وقت واستبدالها. لكن قيمة الإنسان تبقى ثابتة لا تقدر بثمن وهي التي تمنحه الاحترام والتقدير بغض النظر عن المكانة والشخصية. ومن هنا نرى كانط يتفق مع ما جاء به صاحب النص، فهو أيضا يرى أن قيمة الشخص لا تقدر بثمن عكس الأشياء، فهو يربط قيمة الشخص بالذات الأخلاقية أو ما سماه العقل الأخلاقي العملي. فبهذا المفهوم حثنا كانط على عدم النظر إلى الشخص كمجرد شيء يباع ويشترى في الأسواق، بل يجب تغيير نظرنا إليه لأنه ذات تملك عقلا أخلاقيا يستحق الاحترام، وعلى هذا الشخص أن يجعل لنفسه هبة وكرامة يميز بها نفسه عن غيره، فتنحني له العقول سواء أرادت أو كرهت.
[6] ولكن نرى اختلافا بسيطا بين كانط وصاحب النص يتمثل في كون صاحب النص صنف الفرد حسب ما يكنه له الآخرون، أما كانط فتكلم على أن كل من يملك عقلا واعيا أخلاقيا يجب أن يلقى الاحترام. وهذا ما جعل طوم ريغان يعيب النقص الذي جاء به كانط وذلك بإقصائه لفئات اجتماعية أخرى، وقد أعطى أمثلة: كالبويضة المخصبة والمواليد بدون دماغ والمجانين ...الخ. فجاء طوم ريغان بمعيار بديل يحدد قيمة الشخص وهو ما سماه " الذات التي تستشعر حياتها".ويمكن أن أستخلص ما يعنيه في هذه العبارة في كون أن هذه الذات تمتلك وعيا مرتبطا بالزمان والمكان تستشعر به الحياة وتتطلع إلى المستقبل. فالأشخاص الغائبون عن الوعي لا يزالون متمسكين بالحياة ويتطلعون إلى مستقبل أفضل ويسترجعون الماضي. فهل هذه الفئة غير جديرة بالاحترام ؟
[7] من خلال هذا السؤال يتبين لنا نقص ما جاء به كانط ، وبهذا يجعلنا نتطلع إلى البديل الذي جاء به طوم ريغان. لكن هذا الأخير اعترف أن ما جاء به يعاني أيضا من نقص الشمولية لأنه أيضا يقصي بعض الفئات الاجتماعية، ويبقى لنا المجال مفتوحا للبحث عن بديل آخر.
[8] ومن ناحية أخرى نجد بعض الفلسفات تربط قيمة الشخص بمدى الدور الإيجابي الذي يقوم به في المجتمع، حيث نجد مثلا الفيلسوف غوسدورف يحدد قيمة الشخص في مدى تأثيره في المجتمع إذ عليه أن ينفتح على الكون وعلى الغير، وهو لا يوجد ولا يكتمل إلا بالمشاركة والتضامن والأخذ والعطاء. وفي نفس السياق ذهب راولز إلى أن قيمة الشخص تتحدد في علاقته مع الآخرين وبالتزامه بالغايات القصوى لتحقيق العدالة ونشر المبادئ المميزة لها.
[9] هكذا يربط كل من غوسدورف وراولز قيمة الشخص باندماجه في المجتمع وطبيعة علاقته بالآخرين، وهذا يجعل قيمة الشخص نسبية وعلائقية. اما كانط وطوم ريغان فهما يتحدثان عن قيمة مطلقة يمتلكها الشخص بغض النظر عن طبيعة علاقته بالآخرين.
[10] من هنا يبدو أن إشكال قيمة الشخص أثار العديد من النقاشات التي تعددت بشأنها الآراء والتصورات، لكن يبقى أكيد أن الإنسان كشخص يمتلك قيمة عليه أن يزكيها ويحافظ عليها وهي لا تخرج في نظري عن المقومات الأساسية لهوية الشخص كالإرادة والوعي والأخلاق والمسؤولية والحرية، إذ كيف يمكن أن نتحدث مثلا عن قيمة لإنسان ما لا يمتلك حريته أو لا يلتزم بمسؤولياته تجاه نفسه وتجاه الآخرين ؟؟

انتهى موضوع التلميذة.



• ملاحظاتي كــ "مصحح"

وسأحاول فيما يلي أن أبسط مكامن القوة في موضوع التلميذة وأظهرها أشد ما يكون الاظهار حتى تنجلي واضحة ليستلهمها تلامذتنا الآخرون، ووسأشفع كل تعليق بالتنبيه إلى بعض أوجه القصور التي هي نصيب كل عمل بشري مندرج في إطار التعلم، أملا في أن تتجاوزها هذه التلميذة مستقبلا وأن يتفطن إليه غيرها فلايقع فيها.

بصفة عامة:
تمتلك التلميذة كفايات لغوية وبلاغية لافتة للأنظار، فلغتها سليمة نحويا وتركيبيا إلا فيما نذر، وقد تجلت هذه الكفاية في سلاسة العبارة، وفي المرونة التي انتقلت بواسطتها بين الجمل والفقرات، وكذا في غياب التكرار..
كذلك يتسم موضوعها بالتنامي وبوجود خيط ناظم عصم الموضوع من التشتت والتيه والدوران ليس في حلقة بل في حلقات مفرغة..

بالنسبة للطرح الإشكالي/المقدمة/الفهم:
نأت هذه التلميذة عن تلك المقدمات المكرورة البئيسة (بندرج النص ضمن.. أو أثار مفهوم كذا جدلا..)، كتبت التلميذة:

في حياتنا اليومية العادية نصادف ونتعرف على أشكال مجتمعية وفكرية مختلفة من الناس، فرغم تباين معتقداتهم وأعراقهم ومكانتهم يتساوون في كونهم أناس. فهل نحن مجبرون على احترام الإنسان رغم اختلاف أنماطه أم يمكن تمييز فئة عن أخرى؟ وهل نحن أحرار في اختيار من نحترمهم؟ وهل أفعالنا وأفكارنا تتطابق مع بعضها البعض في علاقتها مع الآخر أم لكل منهما عمل منعزل عن الآخر ؟
إن صاحب النص ينطلق من فكرة رئيسية وهي كون الاحترام مخصص للأشخاص فقط. فماذا نقول عن إعجابنا وحبنا لبعض الأشياء ؟ أهو شعور عاطفي محض أم أنه احترام لها ؟
هذا ما سنبرزه من خلال تحليلنا للنص الذي بين أيدينا.


- لقد انطلقت أولا من الواقع، لأن الموضوع يتيح هذه الإمكانية، وليس هناك أفضل من بدء التفلسف انطلاقا من الواقع
- اجتهدت في خلق تقابل وتوتر مشرعن لطرح الإشكال وهو التقابل بين: تمايز وتباين صفات الناس ومراتبهم ومقاماتهم، وبين واجب الاحترام الذي يفترض أن يشملهم دون تمييز !
يظهر التوتر جيدا من الناحية اللغوية في استعمالها لكلمة : "فرغم"
طرحت التلميذة الأسئلة التالية:
-هل نحن مجبرون على احترام الإنسان رغم اختلاف أنماطه أم يمكن تمييز فئة عن أخرى؟ و
- هل نحن أحرار في اختيار من نحترمهم؟
- ماذا نقول عن إعجابنا وحبنا لبعض الأشياء ؟ أهو شعور عاطفي محض أم أنه احترام لها ؟
الجميل في هذه الأسئلة أنها أسئلة النص لا أسئلة الملخص ! وهذا أمر محمود، لأن أغلب التلاميذ يعتقدون ان أسئلة الملخص هي نفسها أسئلة النص، فيفرضون على النص أسئلة الملخص، أو لنقل إنم يطمسون إشكالات النص تحت ركام إشكالات الملخص.. متناسين أن علينا أن نطرح بالضبط الأسئلة المفترض أن النص يجيب عليها، وأن تحليلنا للنص يمثل بسطا لهذه الإجابة قبل محاكمتها في لحظة المناقشة..
ولا يراودني أدنى شك في أن إفلات التلميذة من هذا المنزلق البنيوي الخطير، ونجاحها في طرح أسئلة-النص عوض أسئلة-الملخص يعود إلى سلامة المنهجية التي لقنت لها، أي إلى مجهودات مدرسها !!
بيد أن السؤال المطروح في منتصف المقدمة، كان أقل توفيقا من إخوته! وقد عمدتُ إلى كتابته بلون أحمر ! جاءت صياغة السؤال غامضة، ولم توَفق التلميذة في التعبير. صحيح أنني حدست مرادها، لكن لا أنصحها بالمراهنة على قدرة المصحح على فهم مقاصد الغير!!

بالنسبة للتحليل:
لابد أولا من ملحوظة: يطلب منا كمصححين أن ننقط التحليل من 0 إلى 5 وكذلك المناقشة، ولكن كيف يعرف المصحح نهاية التحليل وبداية المناقشة !؟ يعلم كل مصحح أنه يقوم بعمل "اعتباطي" إلى حد ما وهو رسم خط وهمي يفصل بين التحليل والمناقشة داخل مايسمى بالعرض (مادام التلميذ لا يقول هذا تحليل وهذه مناقشة !)
شخصيا، ومن أجل تقويم منصف، سأعتبر الفقرات: 2، 3، 4 و 5 في موضوع التلميذة بمثابة تحليل! أما احتساب الفقرة 5 كمناقشة فسيقزم التحليل لصالح المناقشة!. صحيح أنها استدعت في الفقرة الخامسة بعض مكتسباتها المعرفية حول كانط، بيد أنها إنما فعلت ذلك في معرض تحليل النص وشرحه وتوضيح أفكاره! وهذا ما جعلها تختم الفقرة المذكورة بالإحالة مجددا على آخر جملة في النص، حيث كتبت التلميذة:

وعلى هذا الشخص أن يجعل لنفسه هبة وكرامة يميز بها نفسه عن غيره، فتنحني له العقول سواء أرادت أو كرهت


إن لم نعتبرها جزءا من التحليل، فلا أقل من أن نعتبرها جزءا مشتركا بين التحليل والمناقشة، أي كفقرة انتقالية، تلخص التحليل وتمهد للمناقشة
بعد هذا التنويه، أقول إن التلميذة نجحت إلى حد بعيد في فهم النص، وهو عموما نص في المتناول، وتجلى ذلك في إعادة عرض وتنظيم للمادة المعرفية للنص كما تجلت في بنيته المفاهمية، وفي مايلي أهم التمفصلات التي رصدتها في موضوعها:
إن ميلنا للأشياء وحبنا لها ...وقد رأى أن للاحترام رفيقا وهو الإعجاب ...وقد ميز صاحب النص بين صنفين ... إن الصنف الأول ... أما الصنف الآخر ... من خلال تحليل النص نرى أن صاحبه... ومن هنا نرى كانط يتفق مع ما جاء به صاحب النص...
إلى جانب ذلك، تجرأت التلميذة على ضرب أمثلة من الواقع للبرهنة على فهمها للنص، حين كتبت التلميذة:

إن الصنف الأول يكون في فرد ذي مكانة اجتماعية – كأحد الملوك أو المشاهير في عصرنا الحالي


أو، حين كتبت:

لأن الأشياء قد تكون محط إعجابنا كسيارة اشتريتها أو قطة أمتلكها، لكن قيمتها تقدر بثمن ويمكننا بيعها أو التخلص منها


بصفة عامة، أعتقد أنها قالت أغلب مايمكن لتلميذ باكالوريا في الثامنة عشر من عمره أن يقوله عن مثل هذا النص، خصوصا وأن التلميذة لا تملك مفتاح النص وهو أن " شيء واحد خيّر بذاته بغض النظر عن نتائجه، يستحق الاحترام لذاته، ألا وهو الإرادة الطيبة.. وأن القانون الأخلاقي بداخل الإنسان هو الذي يرفعه فوق مرتبة الشيء أو مملكة الطبيعة"
إنما أؤاخدها لأنها لم تقف بما يكفي عند مفاهيم: الحب، الخوف، الميل، الإعجاب، الاحترام (لأن النص ليس شيئا آخر غير بنية من المفاهيم)
أحمد لها وقوفها عند مفهوم "الشيء" وقابليته للاستبدال والبيع.. وكذا وقوفها نسبيا عند مفهوم الاحترام، كتبت التلميذة:

أما الاحترام فهو قيمة أخلاقية نابعة من الهبة في النفس


لكن رشاقة العبارة خانتها :icon_biggrin: ، فلم تفصح عن شيء !! وكان بمقدورها أن تشرح الآحترام سياقيا داخل النص بوصفه ذلك التقدير الضروري (شئت أم أبيت) الصادر من العقل والمتجه إلى أخلاقية المرء.
لقد كفاها صاحب النص مؤونة شرح مفهوم الإعجاب، وقد اكتفت هي باستعادة شرحه حيث كتبت التلميذة:

لأن الإعجاب ناتج عن انفعال ودهشة


ولكن ألم يكن بمقدروها أن تحفر قليلا في مفهوم الخوف، بوصفه انفعالا ينتابنا عندما نستشعر خطرا محدقا بنا، كأن الذات مهددة بالتلاشي امام الخطر الصادر عن الموضوع المخيف أو عظمته التي قد تسحق الإنسان أحيانا كالبركان..
كذلك الأمر بالنسبة للميل والحب الذي لايعدو أن يكون هوى يجتاح النفس ويستبد بها، قد يتلاشى ذات يوم كاهتمام المرء بكلاب مدربة أو خيول أصيلة، ثم إن مانميل إليه لايحظى بتقدير وإعجاب كوني.. الكثيرون لا يميلون إلى الخيول ويكرهون الكلاب.. :icon_eek:
أما عن الإعجاب فكان حريا بها أن تتأمل فقط الأمثلة لترى أن الإعجاب شعور أمام ماهو هائل: مسافات سحيقة، كواكب، جبال شامخة... يتجاوز الذات لكنه بخلاف المخيف لايهدد بقاءنا !!
أظن أن التلاميذ، وهذه التلميذة بالضبط قادرة على مثل هذه المفهمة، لو تم لفت انتباهها إلى ذلك بشكل يجعلها تعي المطلب


المناقشة:
يمكن القول أن المناقشة هي الدابة السوداء La bete noire التي تتربص بالتلاميذ في المنعطف الثاني من إنشائهم، والواقع أنني أعذرهم: إذ كيف يمكن للمرء ان يناقش فيلسوفا يقول: الشخص البشري وحده -دون الأشياء والحيوان- جدير بالاحترام بسبب أخلاقيته !!؟
ومع ذلك، ينبغي الاعتراف بأن للتلاميذ أحيانا بعض الحدوس واللُمع الرائعة، منها قول هذه التلميذة:

ولكن نرى اختلافا بسيطا بين كانط وصاحب النص يتمثل في كون صاحب النص صنف الفرد حسب ما يكنه له الآخرون، أما كانط فتكلم على أن كل من يملك عقلا واعيا أخلاقيا يجب أن يلقى الاحترام


لقد خُيّل للتلميذة أن كانط-الملخص يجعل قيمة الشخص كامنة في صفة ذاتية في الشخص، في حين ان كانط-النص يجعلها متوقفة على موقف أو شعور الغير نحو الشخص ! طبعا لقد فاتها أن القيمة تعني أصلا: "مايجعل الشيء موضوع رغبة أو تفضيل أو ..احترام من طرف غيره، تبعا لنوع القيمة !!
لقد كانت هذه التلميذة مبدعة وذكية حتى وهي تخطئ ! :icon_biggrin: سيعتبر البعض حكمي هذا متناقضا، لكن بعض الأخطاء كهذه إنما تعبر في نظري عن ذكاء وعن محاولة جدية وحريئة للفهم أو التأويل رغم غياب عناصر معرفية كافية، بسبب محدودية اطلاع التلاميذ على المتن الفلسفي.
أما ما تبقى من المناقشة، فلم تخرج فيه التلميذة عن المعهود التلاميذي، وإن كانت زلتها أهون لأنها اعتمدت سردا خفيفا مختصرا، ولم "تنزل على" فقرات الملخص بكاملها.
وهكذا، ففي ما يخص احتجاجها بطوم ريغان، كان بإمكانها أن تذكّرنا أولا أن مبرر احترام الشخص حسب النص كامن في "استقامة الطبع"، وأن تتساءل بعد ذلك، هل كل الناس يملكون استقامة الطبع، ويحق لها تبعا ذلك أن تجادل صاحب النص محتجة بمثال الأطفال والرضع والمعتوهين والبويضة.. عندها يكون استدعاء ريغان مشروعا
كان عليها لو ركزت قليلا أن تثير إحراجات كثيرة ننتهي إليها فيما لو تبنينا موقف صاحب النص، من قبيل كيفية التعامل مع المجرم الذين لم يظهر أبدا أي استقامة في الطبع !! هل يظل جديرا بالاحترام رغم ذلك!؟
ولكن مهلا !! لماذا سنحاجج دائما بإسم الفلاسفة :icon_scratch: ! لم لانجادل صاحب النص بشأن قصْره الاحترام على الشخص دون الكلاب والخيول؟! ألا نجد كلابا أوفى من البشر وخيولا أنفع من بعض بني آدم !!؟ ألا تستحق شيئا م نالاحترام بسبب ذلك !؟ لماذا سنستمر في قصر الاحترام على الكائن البشري..!؟
لهذا ألفت انتباه تلامذتي دائما إلى أن المناقشة تعني من بين ما تعني:
- إبراز أهمية النص: مالجديد الذي يعلمنا إياه !؟ وهل يسمح لنا بتناول قضايا ووقائع على نحو أفضل ؟
- الإفصاح عن النتائج المترتبة عن تبني اطروحة النص: ماذا نكسب؟ ماذا نخسر؟ ماذا يحصل لو مضينا مع صاحب النص إلى أقصى الشوط !؟
أما الفقرة رقم 8 من موضوعها، فمجرد كونها تبدأ ب " اما من جهة أخرى" وتتضمن "وفي نفس السياق.." فذلك دليل أن التلميذة قد انساقت وراء المعهود التلاميذي وأمسك الملخص بتلابييها فلم يعد الحوار قائما بين النص ومواقف أخرى، بل استحال الحوار إلى جدل بين المواقف نفسها بعيدا عن النص.
ولكنني لا أحاسبها رغم ذلك على هذه الزلة،إذ كيف يمكن للمرْ ان يجعل غوسدورف أو راولز محاورين لصاحب النص، اللهم إلا إذا فطن التلميذ -وهذا فوق طاقته- أن "استقامة الطبع" التي تحدث عنها النص تعضّد قيمة الشخص وتوجب احترامه لأنها رأس الفضائل الأخلاقية وستنعكس لامحالة على علاقته الإيجابية بالأغيار من خلال: المشاركة والتضامن والعطاء..
أو إذا فطن إلى أن بإمكاننا أن نعطي لاستقامة الطبع مضمونا سياسيا، ونخرج بها من دائرة الأخلاق إلى مجال السياسة، فتتحول إلى صفات مواطن داخل مدينة.. راولز..
ولكن هل من المعقول توقع كل هذه البهلوانيات Acrobaties الفكرية :icon_bounce: من تلميذ البكالوريا !!.

التركيب/الخاتمة:
من خلال تجربتي كمصحح، أستطيع الجزم ان قيمة الخلاصة أو التركيب تتوقف على قيمة المناقشة وليس التحليل،
جاءت خلاصة موضوعها تقليدية امتثالية conformiste لكنها مقبولة في نظري ، لأنها تدخل ضمن المعهود التلاميذي الذي نجده حتى لدى أكثرهم نجابة وتباهة، وهنا يتمثل دورنا في مدهم بنماذج يستلهمون من خلالها إمكانيات أخرى للتركيب والخلاصة..
ما كان لها أن تخلص إلى غير ذلك، مادامت لم تجادل صاحب النص بشكل جدي، ومادامت لم تحاكم أطروحته بشكل يظهر محدودية تصوره او إمكانيات تجاوزه...
ومن الطريف أن السؤال الذي ختمت به موضوعها:

إذ كيف يمكن أن نتحدث مثلا عن قيمة لإنسان ما لا يمتلك حريته أو لا يلتزم بمسؤولياته تجاه نفسه وتجاه الآخرين ؟؟


كان أولى به أن يتخد مكانه في المناقشة، في إطار تطوير أفكار النص أي استكشاف امتداداتها داخل مجالات أخرى أو تقاطعها مع إشكاليات قريبة .. وهي شكل آخر من أشكال المناقشة
وعوض أن تكتفي بطرحه في الخاتمة ليظل مفتوحا، كان حريا أن تستل قوته الاستفهامية لتفتح جبهات جديدة لمناقشة صاحب النص..

والآن وباختصار، ماهي النقطة التي يستحقها هذا الموضوع؟ ء :icon_scratch:
باختصار، ورغم كل القصور والهفوات التي سجلتها بصدد موضوع التلميذة ، إلا أن حكمي النهائي هو أن الموضوع جيد، ويستحق نقطة جيدة، ومبرري في ذلك أن كل تقويم للإنجاز التلاميذي لابد أن يراعي "الممكن التلاميذي"، والموقع النسبي للموضوع داخل مجموعة الأوراق، وحيث ان تجربتي كمصحح علمتني أن من بين 100 ورقة أصححها، أعثر في المتوسط على 8 أوراق جيدة من بينها واحدة ممتازة،فإني شبه متيقن أن ورقة هذه التلميذة ستكون من بين السبعة وربما كانت هي الورقة الثامنة المتميزة!!

ملاحظة وتنبيه في السؤال الفلسفي

[ النص للتحليل والمناقشة ] [ القولة المذيلة بسؤال ] [ السؤال المفتوح ][ نماذج تطبيقية ]
: هذه توجيهات ونماذج للإستئناس والإقتداء، وليست أبدا أبدا للإستعمال الحرفي !! تمهيد: ليست الفلسفة أو بالأحرى الكتابة الإنشائية الفلسفية سوى تعبير عن الحس السليم وممارسة له، بما يمليه هذا الحس من ضرورة الإنسجام، وملاءمة الجواب للسؤال، الإلتزام بالموضوع أو الإشكال وعدم الخروج عليه، التدرج، عدم التناقض، الحرص على دقة المعلومات، الوعي بالهدف ومتابعته....
غير أن الإنشاء الفلسفي - بمقدمته وعرضه وخاتمته- ليس سوى المرحلة النهائية المكتملة لسيرورة تبدأ بالقراءة المتمعنة والمتأنية للنص، تعقبها مرحلة إعدادية نكرسها للبحث عن المعلومات الملائمة وعن الشكل الأنسب لتنظيم هذه المعلومات أي التصميم.
ولعل بعض أسباب فشل الكتابة الإنشائية يرجع إلى سوء إنجاز المرحلة الإعدادية أحيانا أو عدم إنجازها بالمرة أحيانا أخرى. وفيما يلي تعليمات وخطوات تبسيطية على شكل أسئلة موجهة تستهدف المساعدة على إنجاح هذه المرحلة الإعدادية التي يتوقف عليها نجاح إنشائنا الفلسفي أثناء التحرير النهائي.

النص للتحليل والمناقشة
تعليمات وخطوات تبسيطية على شكل أسئلة موجهة للمساعدة في الإعداد الأولي للموضوع

المقدمة:
ماوظيفتها؟
وظيفتها التمهيد للموضوع وتبرير وجوده أو الإعلان عنه. وبما أن كل تفكيرفلسفي ينطلق من إشكالية ما يحاول كشف أبعادها ونتائجها أو يحاول إعادة صياغتها أو اقتراح سبيل أو سبل لمعالجتها، فإن المقدمة هي محل الطرح الإشكالي، ولكن الحس السليم يعلمنا أيضا أنه لايمكن الشروع مباشرة بطرح السؤال أو الإشكال، فلابد من نوع من التمهيد يأخد بالقارئ تدريجيا إلى الإشكال. وعليه فالمقدمة تتضمن شقين مترابطين:
**التمهيد( للإشكال) ثم
**التعبير عن هذا الإشكال وصياغته وطرحه:

تعليمات مساعدة : لتحديد اشكالية النص، يمكن أن نطرح على أتفسنا السؤال التالي:
- ماهو السؤال أو الإشكال الذي يعتبر النص بمثابة جواب عليه أو معالجة له؟ بالجواب على هذا السؤال، أحدد السؤال المركزي الذي سأطرحه في آخر المقدمة وكذا الأسئلة المتفرعة عنه.
حسنا، ولكن كيف أمهد له الآن وأِؤطره؟

تعليمات مساعدة: (لصياغة التمهيد):
لإنجاز التمهيد، علينا أولا أن نطرح على أنفسنا أحد الأسئلة التالية:
- ماهو موضوع النص؟
- أو ماهو المجال أو القضية التي يتحرك ضمنها النص؟
- أو ماهو المفهوم أو المفاهيم الأساسية التي يتمحور حولها النص؟
بالجواب على أحد هذه الأسئلة أحدد الإطار العام للنص الذي ينبغي الآن أن "أنسجه" ضمن تمهيد مناسب، بأحد الأساليب التالية:


ا- التأطير النظري أو الإشكالي أو التاريخي (تاريخ الفلسفة بالطبع) لقضية النص:

مثال:* يستمد التساؤل حول قيمة الحقيقة معناه من الفلسفة المعاصرة التي تستهدف في بعض اتجاهاتها إعادة النظر في مسألة القيم أو قلبها أحيانا، من هنا يمكن التساؤل....
* لم تطرح اشكالية طبيعة العقل ووظائفه بشكل منهجي متخصص إلا مع الفلسفة الحديثة. فمع ديكارت تحديدا، تراجعت الحمولة الموضوعية للعقل واتخد معنى ذاتيا أضيق. بيد أن هذا الإنقلاب لم يكن سوى فاتحة لطرح أسئلة حول طبيعة ووظيفة هذه الملكة التي تتوفر عليها الآن الذات العارفة، من قبيل: هل...


ب- تعريف المفهوم المركزي في النص: بشكل ينفتح على الإشكالية المراد طرحها:

مثال: *للغة معنيان: عام وخاص، يهمنا هنا المعنى الخاص الذي يفيد – حسب لالاند – وظيفة التعبير الكلامي عن الفكر داخليا وخارجيا. ولكن هل نفهم من ذلك أن اللغة وظيفة التعبير الكلامي عن فكر مستقل عنها وسابق في الوجود عليها ؟ أم أن الفكر لايوجد إلا أثناء ومن خلال وظيفة التعبير الكلامي أي أن اللغة والفكر كيانان متصلان متزامنان؟

ج- الإنطلاق من التقابلات:

مثال :* يبدو الإنسان أحيانا حرا في اختيار شخصيته وفق مشيئته وإرادته، في حين تكشف ملاحظات أخرى عن كونه مجرد نتاج لإكراهات وإشراطات خارجة عن إرادته. فهل الإنسان الآن...

د- الإنطلاق من تجربة شخصية أو واقعة ملموسة أو أدبية أو من الحس المشترك:

مثال :* كثيرا ماينتاب الواحد منا أفكار أو أحاسيس لا يعثر لها على كلمات مناسبة لوصفها أو التعبير عنها أو إبلاغها للآخرين، ألا يحق لنا والحالة هذه أن نعلن أسبقية وانفصال الفكر عن اللغة؟ أم...
* في رواية أوراق، يقول الراوي عن اللغة بأنها "ستار سميك يحجب المعنى"، وهذا يتناقض وما نعرفه عن اللغة من كونها أداة للتواصل ونقل المعلومة أو الخبر، مما يفترض أن تكون شفافة لا ستارا معتما، فهل اللغة...

المنزلقات والأخطاء:
لكون المقدمة أول ما يصادف أو "يصدم" قارئ موضوعنا، فإنها تنبئ عن قيمة الموضوع ككل: بحيث قد تترك لديه انطباعا يؤثر سلبا أو ايجابا على طريقة تعامله مع بقية موضوعنا، لذا يستحسن تجنب بعض المنزلقات والأخطاء أثناءها، من قبيل:
-إطالة التمهيد بالإسترسال في تفاصيل إما أنها لاعلاقة لها بالموضوع، وإما أنها مرتبطة بالموضوع لكن موقعها العرض لاالمقدمة.
-طرح أسئلة كثيرة إما لاعلاقة لها بالموضوع، وإما أننا لانستطيع معالجتها كلها في العرض.
-كتابة تمهيد عام جدا وغير مفض إلى الإشكال المطروح، بحيث يكون في الحقيقة صالحا لجميع الموضوعات، كالمفتاح الذي يفتح جميع الأقفال !!.

الــــــــــعرض:


بشكل تقليدي، يتكون العرض من جزئين أو فقرتين متكاملتين مترابطتين والفصل بينهما مصطنع بهدف الشرح والتوضيح : التحليل والمناقشة.
التحليـــــل

جزء من الموضوع أبرهن من خلاله على مدى فهمي السليم لأطروحة النص و لمضمونه وحججه ومسار تشكل أطروحته ، وإدراك دلالة أفكاره وينبغي أن نتذكر على الدوام أن دلالة النص غير واضحة وبديهية وإلا لما سئلنا عنه! فقد تكون الدلالة اللغوية أو الدلالة الفلسفية غامضة أو هما معا. وعليه فإن المجهود الفكري الأكبر يتجه نحو شرح وتوضيح المادة المعرفية التي يحملها النص



تعليمات مساعدة: لتهييء العرض، في هذه المرحلة التمهيدية، يمكن أن نطرح على أنفسنا الأسئلة التالية: المستهدف من الأسئلة
- ماهو بالضبط جواب النص على السؤال المطروح في المقدمة؟ ماهو الموقف الذي يتخده إزاء الإشكالية؟ ------> أطروحة النص
- ماهي العناصر المعرفية والمعطيات التفصيلية لهذا الموقف داخل النص؟ مثلا: الأفكار الجزئية ، الأمثلة... -------> الأفكار الأساسية للنص
- ماهي المفاهيم الرئيسية؟ كيف يمكن شرحها وتعريفها؟ وفي أي سياق ينبغي إدراج ذلك؟ --------> توضيح المفاهيم أو البنية المفاهيمية
- من بين أفكار النص، أيها يؤدي وظيفة حجاجية واضحة؟ مثلا: مقارنات، أمثلة، استدلال بالخلف، أسئلة استنكارية، أساليب لغوية بلاغية للإقناع، وقائع... -------> البنية والأسلوب الحجاجي.
- هل أجد في النص أفكارا يوضح أو يشرح بعضها بعضا؟ ------> الفهم الكلي للنص وإضاءة بعضه ببعض.
- هل أملك - من خلال معرفتي باللغة العربية ومن خلال رصيدي المعرفي الفلسفي - أفكارا أو أمثلة أو استشهادات ذات صلة تسمح بتوضيح وشرح أفكار النص وحججه؟ ----> إستدعاء المكتسبات الملائمة لفهم النص.
- هل يتضمن النص إشارات مقتضبة أو تلميحات إلى أفكار أو أطروحات فلسفية أعرفها؟ ------> توضيح مااكتفى النص بالتلميح إليه.
- هل يمكنني أن استنبط من أفكار النص وحججه أفكارا وحججا إضافية تنتمي إلى رصيدي المعرفي بحيث أزيد الأولى وضوحا؟ ------- > تطوير وإعادة بناء البنية الحجاجية للنص.
- هل يمكنني في الأخير أن أنظر إلى النص من عل، فأنسبه إلى تيار فلسفي أو أصنفه ضمن مذهب فلسفي معروف؟ ------> موضعة النص في إطار موقف أو مذهب أو تيار فلسفي.
صيغ مساعدة: صيغ للحديث عن أطروحة النص: "يدافع النص عن أطروحة مفادها..."
"يسعى النص إلى إثبات..."
"النص في مجمله دفاع عن ..."، "
من الواضح أن النص ينتصر لأطروحة مفادها..."
للحديث عن المفاهيم والبنية المفاهيمية: "ومن الجدير بالذكر أن ... يفيد..."
"من المعروف أن ... يعني..."،
"إذا أردنا الوقوف على مفهوم... سنجد أنه يدل على..."
"نلاحظ حضورا قويا لمفهوم... ويقصد به..."
"لكن مالمقصود ب...؟ يقصد به..."
" وفي هذا الإطار نشير إلى أن ...... تعني ......".
صيغ للحديث عن الأسلوب الحجاجي للنص: "لإثبات هذه الفكرة استعمل النص أسلوب...ليوضح كيف أن..."
"هنا لجأ النص إلى...لإبراز..."،
" ولكي يدلل على...قارن..."
، "لنلاحظ كيف استعمل... ليصل إلى أن..."،
"لايكتفي النص ب... بل..."
صيغ للحديث عن مسار تشكل الأطروحة داخل النص: "فيما يخص بنية النص نلاحظ أنه انطلق من ... إلى..."
"بعد أن حدد النص... انتقل إلى..."،
" اعتمد النص عموما على أسلوب....."،
صيغ لإستدعاءالمكتسبات المعرفية الملائمة: " ولنضرب لذلك مثلا..."
، "وبعبارة أخرى..."،
"وهذا يعني أن..."
"الشيء الذي يتطابق والأطروحة القائلة..."، "
" يمكن أن نفسر ذلك بالقول..."
لكن، مالمقصود ب...يفهم من ذلك أن..."،
"ولعل هذا ما ذهب إليه أيضا..."


المناقـــــــــــــــــشة
ماوظيفتها؟
جزء من الموضوع أبرهن فيه على قدرتي على الحكم على موقف النص وتقييمه أو إبراز حدوده.
تعليمات مساعدة: لإنجاز هذه الخطوة في المرحلة التمهيدية، يمكن أن أطرح على نفسي ألأسئلة التالية: - هل لدي ملاحظات أو تعليقات حول الأسلوب أو البناء الحجاجي للنص؟ حول قوة الحجج أو ضعفها، ملاءمتها أو عدم ملاءمتها؟ -------- مناقشة داخلية؛
- هل هناك نتائج أو جوانب أهملها النص أثناء تناوله للموضوع -------- مناقشة داخلية؛
- إن لم يكن، أفلا توجد مواقف وأطروحات فلسفية مغايرة تتبنى منظورا أو تحليلا مخالفا لتحليل النص؟ -------- إبراز حدود النص.مناقشة خارجية؛
- إن لم يكن، أفلا توجد مواقف وأطروحات فلسفية تتبنى منظورا أو تحليلا مكملا لتحليل النص؟ ------------ lموضعة النص في سياقه الفلسفي، مناقشة خارجية
صيغ مساعدة: أ- صيغ للإنتقال إلى المناقشة: --"نلخص ماسبق بالقول إن النص ينتصرللأطروحة القائلة...ولكن إلى أي حد.../ هل صحيح أن.../ألا يمكن...؟"
--"انتهينا مع النص إلى أن...ولكن..."
-- "يتبين وفق منطق النص أن...فإلى أي حد..."،
-- " لحد الآن نظرنا إلى ... من زاوية..... ماذا لو ....؟" إلخ....
ب- صيغ للشروع في المناقشة الداخلية: -- "نلاحظ بأن البنية الحجاجية للنص لاتعتمد سوى على..."
-- " إن أغلب حجج النص ذات طبيعة..."
-- " إن النص يحيل على... دون أن يقدم توضيحا حول..."
-- " استشهد النص بــ.... ولكن ماذا عن .....؟"إلخ....
ج- صيغ للشروع في المناقشة الخارجية: --"يمكن أن نتناول الإشكالية من زاوية أخرى..."
-- "على النقيض مما سبق، تؤكد الفلسفة أو التصور الفلاني بأن..."
-- " إننا بهذه الأسئلة ننفتح على تصور مغاير..."
-- "بهذه الأسئلة، نتموقع ضمن تصور معارض يرى بان..."


الخاتمة:
ماوظيفتها؟

جزء من الموضوع نعبر فيه عن الخلاصة التي نخرج بها من كل هذا التحليل والمناقشة.

تعليمات مساعدة:
لإنجاز هذه الخطوة، يمكن أن أطرح على نفسي السؤال التالي:

كيف أصبحت أنظر إلى الموضوع الآن بعد تحليله ومناقشته؟

صيغ مساعدة:بما أن الخاتمة حصيلة مسار العرض، فإن هذه الحصيلة ستعكس موقفنا من التقابل أو من جملة التقابلات التي كان العرض مسرحا لها . والتقابل نوعان:
-تقابل تناقض: إذا كانت المواقف متناقضة لايمكن الجمع بينها وكان حضور أحدها يلغي الآخر (كتقابل العقلانيين والتجريبيين، أو تقابل القائلين بالحرية أو الحتمية بالنسبة للشخصية) وكنت أرجح أحدهما فيمكن استعمال صيغة مثل : "إذا بدا ضمن رأي أول بأن..... فأن التفكير العميق في الإشكالية يِكد بأن....."؛ أما إدا كنت محايدا، سأقول مثلا: " إن قضية أو إشكالية .... متعددة الأبعاد، بحيث تبدو من جهة..... ومن جهة أخرى......".
- تقابل تعارض: عندما تكون المواقف مختلفة ولكن يكمل بعضها بعضا كتكامل موقفي جاكبسون وديكرو بصدد وظيفة اللغة. في هذه الحالة نبرز التكامل الموجود.

المنزلقات والأخطاء أوماينبغي تجنبه:
تجنب الأحكام القاطعة لأن الفكر الفلسفي ذوطبيعة منفتحة؛وتجنب طرح أسئلة أبعد ماتكون عن الموضوع التي انتهينا منه و تجنب إعادة طرح نفس أسئلة المقدمة وكأننا لم نستفد شيئا وكأننا خرجنا من الموضوع كما بدأناه !!

نماذج من امتحانات التلاميذ

النموذج الأول:
لقد نقلت موضوع المترشح كما هو بهفواته وزلاته إذا وجدت، والتي أخشى أن تنضاف إليها أو تختلط بها أخطاء الكيبورد التي ريما ارتكبتها عند مسك الموضوع وادخاله إلى الحاسوب!! وعلى كل، فقد عمدت هنا إلى وضع علامة (؟) أمام أي خطأ أو لبس في إجابة المترشح

أما اللون الأخضر فقد أضفته لأبرز المقاطع المضيئة في الموضوع والتي سأعود للتعليق عليها لاحقا، وللتذكير فالمترشح ينتمي إلى الشعبة العلمية التي تدرس الفلسفة بواقع ساعتين أسبوعيا
أولا نص الموضوع الذي امتحن فيه المترشحون :
الشخصية هي المنتهى المشترك لظاهرات تتعلق بالسيكولوجيا الفردية وبالسيكولوجيا المجتمعية، داخل مجموعة من الشروط اللازمة للسلوك، إزاء المواقف الحالية
ينطبق هذا التعريف على الجانب من الأنا الذي له، من بعض الوجوه، وحدة واستقرار يشبهان الوحدة والاستقرار اللذين نطلقهما على الموضوعات، ويصبح هذا التعريف غير صالح بمجرد ما نريد أن ندخل فيه ما ليس هنا-الآن، ويجاوز :" الحاضر:"، أي كل ما لا يمكن أن يتصف "بالحضور" ( حالا أو استقبالا) لأنه دائما يحيا، سابقا على حاضره، أي أنه يحيا في المستقبل. فللطالب مثلا، شخصية حالية هي الشخصية المحددة في ورقة هويته، والتي تملأ حقل وعيه في "الآن". بيد أن ائطالب يشعر بتوتر داخلي، أي بقوة تدفعه إلى "الشخصية" التي يرمي لأن يصبحها، وهذه الشخصية - النزوع ليست حدا نهائيا؛ من الممكن تجاوزها، لأن إمكانيات الطالب لا تعطى، برمتها، دفعة واحدة، إنها تبرز حسب تتابع تصاعدي، كسلسلة من الشخصيات يمكن تصورها. من الجائز أن تنضب إمكانيات الطالب، فيبقى دون ما كان يصبو إليه، على أن الشخصية التي يرمي إليها غاية، بالنسبة للوضع الحالي، ولو استحال تحقيقها في المستقبل. إن صح ما تقدم، جاز أن نقول بأن الشخص ليس بشخصية واحدة بل هو عدة شخصيات

حلل النص وتاقشه





يعتبر موضوع الشخصية من أهم المواضيع التي استرعت اهتمام الفلاسفة والعلوم الانسانية منذ القدم، فبدأ الخوض فيها وفي مكوناتها باعتبارها بنية دينامية تخضع لعدة تأثيرات سيكلوجية واجتماعية

والنص الذي بين أيدينا يندرج ضمن موضوع الشخصية وبالخصوص ضمن الشخصية بين الحتمية والحرية. ويطرح هذا الموضوع إشكالا هاما يمكن صياغته كالتالي: هل الإنسان كائن فاعل أم عنصر منفعل؟"

ويجيب عليه صاحب النص بالأطروحة التالية:"رغم أن الإنسان يخضع لعدة إكراهات نفسية واجتماعية، فإنه وباعتباره كائنا حرا ذا إرادة، يستطيع أن يتخلص من هذه الإكراهات"
إن اشكالية "الإنسان بين الحرية والحتمية" أفرزت العديد من التساؤلات التي يمكن صياغتها كالتالي: " هل للإنسان دور في بناء شخصيته؟ أم أنه يخضع لعدة حتميات سيكلوجية وسوسيو ثقافية لايمكنه التخلص منها؟ وإلى أي حد يمكن الإتفاق مع هذين الموقفين؟

من أجل تحليل هذا النص سيكون من المنهجي، تفكيكه اولا إلى وحداته الأساسية، ويمكن الاكتفاء فقط بوحدتين أساسيتين حيث ان الوحدة الأولى يبرز فيها صاحب النص بأن الإنسان يعيش تحت ضغط إكراهات سيكلوجية واجتماعية، والوحدة الثانية، يتم نقد الموقف الذي تم عرضه في الوحدة الأولى مع إبراز مدى حدوديته (؟)ء وعدم صلاحيته في بعض الحالات

يبدأ صاحب النص بتقديم تعريف لمفهوم الشخصية حيث يعتبرهاتنظيما مركبا وبنية دينامية يتدخل في تكوينها مجموعة من العوامل السوسيو ثقافية والسيكلوجية. فالنظام النفسي والاجتماعي يؤثران بشكل كبير على شخصية الإنسان، فالانسان في مرحلة طفولته يمر عبر مراحل تلعب دورا كبيرا في تكوين شخصيته، كما أن الإنسان وباعتباره كائنا اجتماعيا بالطبع، يعيش وسط هذا المجتمع ويكتسب ثقافة هذا المجتمع ولهذا فمن الطبيعي أن يؤثر كل ذلك في بناء شخصيته.

ولكن صاحب النص ورغم تقديمه لهذا التعريف إلا انه يبرز بعد ذلك حدوديته (؟)ء حيث ان هذا التعريف لاينطبق إلا على جانب من الأنا الذي يتميز بعض وجوهه بالوحدة والاستقرار. ومن هنا يبدأ صاحب النص بانتقاد الموقف الذي يقر على أن الإنسان يخع لعدة حتميات وإكراهات سوسيوثقافية وسيكلوجية، وان الإنسان لا دخل له في تكوين شخصيته، فيؤكد صاحب النص ان هذا التعريف جد محدود، والتعريف الذي بدأ به صاحب النص غير صالح عندما يتم تجاوز الحاضر. فنحن نعلم ان الإنسان كائن ذات (؟) إرادة وحرية وأنه قادر على أن يغير حاضره ومستقبله إذا أراد ذلك فالإنسان يحيا وكله طموح وأمل في أن يغير شخصيته ويحسن منها. وعند هذا الحد يفقد مفهوم الحتمية قيمته ويصبح غير صالح لآي شيء.

ولقد اتبع صاحب النص مسارا منطقيا، مترابطا حيث انطلق من منطلق نقدي، فقام في البداية بابراز الموقف الذي يؤكد أن الإنسان كائن منفعل لادخل له في تكوين شخصيته فقام بعد ذلك صاحب النص بدحض هذا الموقف من خلال إبراز حدوديته (؟) وعدم صلاحيته، لأن الإنسان كائن ذات إرادة وحرية تصبو دائما نحو التغيير.

ولقد استند صاحب النص على مجموعة من البراهين والحجج حيث قام بتقديم مثال أبرز من خلاله عدم صلاحية موقف الحتمية، فاعتبر أن الطالب يمتلك شخصية حالية أي الشخصية التي كونتها تلك الضغوطات النفسية والاجتماعية، ولكن هذا الطالب وباعتباره كائنا بشريا يمتلك العقل، فإنه سيشعر دائما بقوة تدفعه للتغيير واالوصول إلى الشخصية التي يرمي إليها باعتبار أن امكانيات الطالب كثيرة ومتعددة، كما أن تلك الشخصية التي سيصبح عليها غير قارة، فقد يتم تغيرها أو التحسين منها هي الأخرى، لأن امكانيات الطالب جزئية |أي انها لاتعطى دفعة واحدة، بل تعطى شئا فشيئا، كما أن من الجائز أن تفشل إمكانيات الطالب فلا يصل إلى مايصبو إليه

إذن يتبين لنا من خلال هذا المثال أننا لانتكلم عن شخصية واحدة قارة وثابتة، بل إننا نتحدث عن عدة شخصيات يلحقها التغيير بفضل الإمكانيات الهائلة التي يتوفر عليها الإنسان
وهكذا توصل صاحب النص إلى أن الشخصية رغم انها تتعرض لعدة ضغوطات، فإنه من الجائز ان يلحقها التغيير بفضل إمكانيات الإنسان غير المحدودة باعتبار هذا الأخير ذاتا واعية ومفكرة تأمل في التغيير وتصبو إلى النجاح
إذن انطلاقا من تحليل هذا النص يتضح لنا أن الإنسان كائن فاعل يلعب دورا كبيرا في بناء شخصيته وتغييرها

ولمناقشة هذا النص يجب علينا اولا أن نبين قيمته وبعد ذلك، نبيتن المواقف المؤيدة والمواقف المعارضة له. إن النص الذي بين أيدينا حاول اقناعنا بالموقف الذي يعرضه من خلال مجموغة من الحجج. لقد قدم لنا تصورا واضحا عن دور الإنسان في بناء شخصيته وذلك بدون نسيان الضغوطات التي يتعرض لها الإنسان فيحاول صاحب النص إقناعنا بأن هذه الضغوطات تقد قيمتها بمجرد شعور الإنسان بالرغبة في التغيير نحو الأفضل والتخلص من جميع تلك القيود

لقد تعزز موقف صاحب النص بموقف سارتر الذي اعتبر أن " الوجود سابق على الماهية" فالإنسان يولد أولا ثم بعد ذلك تتحدد ماهيته يؤكد هنا سارتر أن وجود الإنسان يعني حريته وتحمل مسؤولية اختياراته، فهو يتحدد من خلال ماسيصنعه في المستقبل أي من خلال إنجازاته المستقبلية

الفيلسوف سارتر يحمل نفس الفكرة التي يريد صاحب النص أن يبلغها أي أن الإنسان سيظل كائنا فاعلا في تكوين شخصيته لأنه بكل بساطة كائن حر ذات إرادة ورغبة في التغيير

لكن من جهة أخرى تظهر مواقف العلوم الإنسانية التي أبدت اهتماما كبيرا في طرحها لمسالة الشخصية، فهي تؤكد ان الإنسان يعيش عدة ضغوطات نفسية وسوسيوثقافية
أما النفسية، فيمثلها فرويد الذي يؤكد ان منطقة الشعور هي أهم منطقة سكلوجية توجد عند الإنسان ولقد شبه الشخصية كجبل جليد أي ان الجزء الخفي والمغمور في الماء أضخم بكثير مما هو مكشوف ويظهرفوق الماء. ولقد اعتبر ان مرحلة الطفولة مرحلة حاسمة في تكوين شخصية الإنسان، ابتداءا من المرحلة الفمية، ثم الشرجية فالقضيبية كما ان النظام النفسي يتكون من عدة مكونات وهي ثلاثة: الهو- الأنا- الأنا الأعلى
أما الهو فهو الفطري في الإنسان، يتحكم فيه مبدأ اللذة أو ما اصطلح فرويد على تسميته: مبدأ الليبيدو، هائج ولا يعرف معنى الأخلاق
الأنا: هو جزء من الهو الذي تم تعديله، وهو الذي يتحكم في تكزين الشخصية سواء كانت سوية او شاذة
الأنا الأعلى أي الضمير والأخلاق

فالإنسان إذن يتعرض لهذه الضغوطات النفسية، إذا نجح الأنا في التوفيق بين متطلبات الهو والواقع، والواقع والأنا الأعلى كانت الشخصية سوية أما إذا لم ينجح في ذلك كانت الشخصية شاذة

كما أن الإنسان وباعتباره كائن اجتماعي يتأثر بمجتمعه وثقافته من خلال التنشئة الاجتماعية أي من خلال المؤسسات الإجتماعية التي يمر بها ابتداءا من الأسرة فالشلرع والمدرسة وغير ذلك
وانطلاقا من مناقشة النص يظهر لنا أنه لايكمن إخفاء تلك الضغوطات والحتميات التي يتعرض لها الإنسان أي أنه كائن منفعل
وانطلاقا من تحليل ومناقشة النص يتبين لنا أن الصراع لا زال قائما في إشكالية الشخصية بين الحتمية والحرية، فهناك موقفان أساسيان موقف يؤكد أن الإنسان حر وفاعل في تكوين الشخصية وموقف يؤكد على أن الإنسان يتعرض لضغوطات وحتميات تجعله إنسان منفعل

وكإبداء لرأي شخصي يظهر لي أن الإنسان ورغم أنه يتعرض لتلك الحتميات فإنه كائن ذو إرادة وحرية، يستطيع ان يغير شخصيته تغييرا كاملا، والواقع هو الدليل القاطع على ذلك فكم هم الأشخاص الذين ينشئون في بيئة تتميز بصفات معينة ويحاول التخلص من تلك الضغوطات ليكتسبوا شخصية مختلفة تماما عن الشخصية الحالية. إذن فأنا أتفق مع صاحب النص وأؤيد رأيه تماما

الحقيقة

منقول
المحور الأول: الحقيقة والرأي

تمهيد لفهم الإشكال:
ماهو التقابل أو المفارقة الموجهة لمسار تفكيرنا في هذا المحور؟
إذا كانت الحقيقة هي مطابقة الفكر لموضوعه، فماذا نقصد بالرأي؟
لا يقصد به في هذا المقام وجهة النظر الشخصية كما في قولك: " رأيي أن نقوم عوض أن نجلس" أي وجهة نظري أو موقفي، بل يقصد به فكرة أو تمثل أولي أو اعتقاد يعوزه اليقين في مقابل الحقيقة التي يفترض أنها يقينية مبرهن عليها بطريقة من طرق التدليل والاثبات والتحقق.
بيد أن العلامة المميزة للرأي كخطاب وكنمط من المعرفة هو كونه متداولا ومتاحا للجميع، وبهذا المعنى الأخير يغدو الرأي مرادفا للحس المشترك أي الفهم الطبيعي المشترك بين الناس، المتاح مباشرة لكل فرد دونما حاجة إلى دراسات متخصصة أو منهجية.

طرح الإشكال:
دأبت الفلسفة على تقديم نفسها كخطاب للحقيقة والحقيقة المنزهة عن الغرض بالخصوص، تلك التي تنتج عن مجهود عقلي وروحي خاص. وإذا كانت الحقيقة نقيضا للخطأ والوهم والظن والتسرع والأحكام المسبقة، فإن كل هذه الأضداد تجتمع تحت مسمى واحد: الرأي !
ولكن من يقيم هذه التقابلات أولا؟ هل هناك رأي يشير إلى نفسه باعتباره رأيا!؟ وهذه الحقيقة اليقينية الناتجة عن منهج وتدليل ومجهود عقلي، هل هي استمرار للرأي أم أنها تشكل قطيعة معه؟

معالجة الإشكال:

1- تسفيه الرأي: الحقيقة كقطيعة مع الرأي



يميز أفلاطون بين الحقيقة من جهة والرأي أو الظن أو الدوكسا من جهة ثانية بحيث أن الأولى مرادفة لليقين والجوهر بينما يرادف الرأي الوهم والمظاهر وتقدم لنا محاورة مينون مثالا لشخصين أولهما يعلم الطريق إلى مدينة "لاريسا" علم اليقين وسبق له أن زارها بينما لا يعلم الثاني هذا الطريق إلا من جهة السماع والتخمين. من الممكن أن يهتدي الثاني إلى الطريق. إن معرفته لا تتجاوز الرأي بيد أنه "رأي سديد" ، ولكن بينما يصل ذو العلم إلى مبتغاه على الدوام وبشكل يقيني، يمكن لصاحب الرأي أن يبلغ مبتغاه حينا ويضل عنه حينا آخر.

سيتخد الحذر من الرأي عند ديكارت طابعا منهجيا راديكاليا: تقع الحقيقة في نهاية سرداب يبدأ بالشروع ولو مرة واحدة في حياتنا في الشك في جميع الآراء التي تلقيناها وصدقناها وفي الأشياء التي نجد فيها أدنى شبهة من عدم اليقين بغية التخلص من الأحكام المسبقة و الآراء المتداولة التي تعجلنا في إطلاقها والتي تتشبت بأنفسنا بقوة.
وتستمر فكرة القطيعة بين الحقيقة و الرأي في الفلسفة المعاصرة وبالضبط في الابستملوجيا الباشلارية: الرأي دائما خاطئ، الرأي نوع من التفكير السيء، بل إنه ليس تفكيرا على الاطلاق. وليس تاريخ العلوم إلا تاريخ دحض وهدم مستمرين للرأي أو بالأحرى لبادئ الرأي الذي يعد واحدا من أقوى العوائق الابستملوجية ومن حيث كونه فكرا تفرزه الحياة اليومية الغارقة في البراغماتية، فإن الرأي يكتفي بترجمة الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها فيحرم نفسه بذلك من معرفتها.

فقرة انتقالية: لأن الفلسفة لا تتوانى عن وضع كل شيء موضع تساؤل بما في ذلك نفسها وادعاءاتها، فلامناص من أن نتساءل: ما "حقيقة" القطيعة بين الحقيقة والرأي؟ إذا كانت الحقيقة تفضل الرأي بكونها مبناة وفق منهج ودليل، ألا تقوم بعض الحقائق بدورها على اعتقادات وآراء لا سبيل للبرهنة أو التدليل على صحتها؟ هل يصح أن نقارب علاقة الحقيقة الفلسفية بالرأي كمقاربتنا لعلاقة الحقيقة العلمية به؟


2- إعادة الاعتبار للرأي: أوجه الاستمرارية بين الحقيقة والرأي



يعتبر الاسكتلندي توماس ريد (1710-1796) مؤلف "بحث في الفكر الانساني وفق مبادئ الحس المشترك" من الفلاسفة القلائل الذين سعوا صراحة إلى اعادة الاعتبار إلى مقولات الحس المشترك وبداهاته والتي يرى أن افتراضاتها لا تقل قبولا عن الافتراضات الميتافيزية لأغلب المذاهب الفلسفية. بل إنها تتضمن من الصواب أكثر ما تحويه النظريات الفلسفية المنافسة والمبخسة لها. كما أن ما يدخله الفلاسفة في عداد الرأي او الحس المشترك أقدر ببداهاته على مقاومة مذاهب الشك الهدامة أكثر مما تستطيع أنساقهم الفلسفية نفسها. وتتميز اعتقادات الحس المشترك حسب توماس ريد بكونيتها، إذ لا يماري فيها سوى بعض الفلاسفة والحمقى، وببداهتها إذ أن نكرانها يوقع في التناقض
وقد في نفس الإطار يندرج كتاب جورج توماس مور (1873–1958) " دفاع عن الحس المشترك"
ويذكر فيتجنشتاين في كتابه "في اليقين" أزيد من 300 من القضايا والاعتقادات التي لا يكاد يتطرق إليها الشك ولم يجر أبدا التحقق أو التفكير في التحقق منها، بل ويستحيل التحقق من بعضها شخصيا كالاعتقاد بأن للناس أدمغة في جماجمهم أو أن هذين هما والدي فعلا وأن لي أجدادا وأسلافا وأنه توجد قارة تدعى استراليا...تدخل هذه القضايا وغيرها ضمن ما يسميه فيتجنشتاين بــ "صورة العالم" وهي أساس لكل ما أبحث عنه وأود تأكيده لاحقا وكل القضايا التي تريد وصف تلك الصورة غير خاضعة بدورها للتحقق. وبذلك يتطابق الرأي مع البداهات والحدوس الأولية التي يملكها الفرد عن العالم


خلاصة: ماحقيقة التعارض بين الحقيقة والرأي؟



مما لا مراء فيه أن الحقيقة في العلم الذي يزداد موضوعه تخصصا ومناهجه دقة، تتعارض في أحيان كثيرة مع الرأي والحس والمشترك؛ والدوران البادي للشمس حول الأرض خير دليل على ذلك، ولكن ماذا عن حقائق الحياة اليومية والحقائق الأخلاقية والسياسية، وهي المجالات التي تنازع فيها الفلسفة الحس المشترك المشروعية وتنعته بالرأي؟
نسجل أولا أن الرأي أو الحس المشترك ليس كونيا أو لازمنيا كما اعتقد طوماس ريد، بل هو منتوج ثقافي يترجم القيم السائدة في حقبة أو مجتمع معين. ألم يكن الرق في وقت من الأوقات مقبولا من قبل الحس المشترك كممارسة لا غبار عليها من الناحية الأخلاقية ؟
ولكننا نسجل من جهة أخرى ميل الديمقراطيات الحديثة إلى إعادة الاعتبار للرأي فيما يسمى بالرأي العام واستطلاعات الرأي وكأن القرار السياسي أو الاقتصادي أو الأخلاقي الحق والصائب ليس سوى جماع الرأي السائد والمتداول على أوسع نطاق. قد نفسر ذلك بتعذر الحديث عن حقيقة يقينية في هذه المجالات التي يسود فيها الاحتمال والترجيح le plausible، ويبدو اليوم أن الحقيقة كمرادف لليقين البرهاني أصبحت مجرد وهم في النظرية الحجاجية المعاصرة، إذ لايتعلق الأمر ببرهنة على حقائق، بل بمنح اعتقدات ما أعلى درجات الاتساق والمعقولية لتحصل على إذعان العقول، أضف إلى ذلك أن الرأي والحس المشترك لم يعد مجرد اعتقادات ساذجة، بل اصبح "رأيا متنورا" منذ اختراع المطبعة وصولا إلى ثورة وسائل الإعلام. فهل يعني ذلك أن الفيلسوف مضطر تجنبا لتهمة النخبوية لعقد مصالحة بين الحقيقة كما ينشدها والرأي الذي طالما عمل على ازدرائه وتسفيهه؟


المحور الثاني: معايير الحقيقة

طرح الإشكال:
المعيار لغة هو المكيال أو وحدة أو مرجع القياس، نقول "عاير الميزان" إذا قايسه وامتحنه بغيره لمعرفة صحته، وعيار الشيء ما جعل قياسا ونظاما له. ونستعملها هنا بمعنى الشرط أو العلامة المميزة، فيكون التساؤل عن معيار الحقيقة تساؤلا عن العلامة التي تسمح بالتعرف على الفكرة الحقيقة وتمييزها أو الشرط الذي إن توفرت في فكرة ما نعتت بالحقيقة
لايتعلق الأمر هنا بالبحث عن معيار الحقيقة؟ بل بالبحث في إمكانية الحديث عن معيار بصيغة المفرد أو عن معيار كوني: أمام تعدد مواضيع الفكر الإنساني، ما وجاهة التساؤل عن معيار الحقيقة ؟

معالجة الإشكال:

1- محاولة لتحديد معيار كوني : الوضوح والتميز



عندما ينخرط المرء في مغامرة الشك الشامل وفي عملية مسح الطاولة، لابد له من معيار أو علامة يهتدي بها إلى بر الحقيقة من جديد حسب التعبير المجازي لهيغل. ولما كان هدف الفلسفة حسب ديكارت هو كشف المبادئ الأولى التي تستنبط منها كل معرفة ممكنة، وجب وضع معيار شامل لفحص حقيقة هذه المبادئ المؤسسة وما يستنبط منها.
لننظر في الكوجيطو مثلا: لا يمثل الكوجيطو الحقيقة الأولى في النسق الديكارتي فحسب، بل يقدم لنا نموذج الحقيقة بامتياز: فهو حقيقة بسيطة واضحة استخرجها الفكر من ذاته. لذلك يشترط في جميع الحقائق أن تكون حقائقا أولية بسيطة يدركها الفكر بالحدس بكل وضوح وتميز أو حقائقا مركبة مشتقة منها عن طريق الإستنباط. وبعبارة أخرى، فالحقائق إما موضوع حدس إذا كانت أفكارا ومعان عقلية بسيطة، بديهية وفطرية يدركها العقل مباشرة؛ أو موضوع استنباط إذا كانت أفكارا وقضايا مركبة ومشتقة. وفي جميع الأحوال فالحقيقة صفة ذاتية للفكرة ولا تخرج عن دائرة الفكر وكأن الأفكار الحقيقية تحمل في ذاتها دليل حقيقتها، لذلك يقول اسبينوزا : " الحقيقة معيار ذاتها كالنور يعرف بذاته وبه يعرف الظلام " ولعل ذلك صادق بالخصوص بالنسبة لحقائق الرياضيات حيث لا يهتم الفكر إلا بالتطابق مع ذاته أي احترام مبادئه ومعاييره.


2- لاوجود لمعيار كوني إلا بالنسبة للحقائق الصورية



بخلاف ديكارت واسبينوزا اللذين اعتقدا في وجود معيار كوني للحقيقة بصفة عامة، لا يمكن حسب كانط الحديث عن معيار كوني للحقيقة إلا بصدد الحقائق الصورية، فمادامت المعرفة تتطلب مادة وصورة: حدوسا حسية ومقولات عقلية، فإن الأحكام التي تتضمن حدوسا حسية وهي الأحكام التركيبية لا يمكن معرفة حقيقتها بمجرد تحليل مكوناتها أو النظر فيها بذاتها، لابد أن نتأكد من مطابقتها لموضوعها وهو مادتها. وهكذا وبتأمل القضايا الثلاث التالية "السماء غائمة ، " الوقت متأخر" ، " جميع المعادن تتمدد بالحرارة" نجد ثلاث أحكام لكل منها موضوع وفي كل مرة ينبغي فحص الموضوع/الواقع للتأكد من مطابقة الحكم له . والمواضيع تتعدد إلى ما لانهاية، لذلك يستحيل العثور على معيار كوني شامل للحقائق المادية أو لنقل للأحكام التركيبية.
لننظر الآن في الحقائق الرياضيات والمنطق : لا يتضمن هذان العلمان أحكاما متعلقة بالعالم الخارجي، ولذلك يكفي لفحص صدق أحكامهما النظر في عدم تناقضها مع قواعد العقل والاستدلال أو المنطق أي في صحة صورتهما .غير أن المنطق لا يستطيع أن يذهب بعيدا : فما من محك بوسعه أن يتيح للمنطق كشف الخطأ حين يتعلق الأمر بمادة المعرفة وليس بصورتها

المحور الثالث: قيمة الحقيقة


طرح الإشكال:
قيمة الشيء هي تلك الصفة التي تجعله موضع تقدير أو اهتمام أو رغبة او احترام. وعلى هذا الأساس نصوغ إشكالية قيمة الحقيقة على النحو التالي: لماذا نطلب الحقيقة ونرغب فيها ؟ مالذي يجعل الحقيقة محط نقاش وجدال وادعاء؟ هل تطلب الحقيقة لذاتها أم كوسيلة لنيل غايات تتجاوزها؟ هل تتمتع الحقيقة بقيمة أخلاقية أم بمجرد قيم أداتية

معالجة الإشكال:

1- القيمة الأداتية للحقيقة: نموذج التصور البراغماتي



يتساءل وليام جيمس (1842-1910) عن وظيفة الحقيقة وعن الغاية من امتلاك أفكار صحيحة ويجيب بكل بساطة: أن امتلاك الحقيقة ليس غاية في حد ذاته بل مجرد وسيلة يتوصل بها إلى إشباع حاجات حيوية، إنه يكافىء امتلاك أدوات ثمينة للعمل. وبعبارة أوجز: الحقيقى هو المفيد
ذلك هو التصور البراجماتي لقيمة الحقيقة، حيث يتوقف صدق القضية على قدرتها على تمكيننا من تناول الواقع ذهنيا أو عمليا وتوجيهنا بنجاح نحو الإستفادة من وجودنا، ونحن كما يقول برغسون نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما نخترع الأجهزة الصناعية لتسخير القوى الطبيعية. إن الحقائق ليست أكثر من مخترعات نافعة ووسائل مفيدة في تصور الأشياء واستخدامها؛ بل إن الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859-1952) يرى في نشأة التفكير العقلي عند النوع البشري استجابة لدواع عملية براغماتية وهي الرغبة في الحياة والبقاء، لأنه يسمح للإنسان بصنع شيء أوإنجاز فعل على نحو أفضل مما لو اعتمد على الغريزة والإندفاع وحدهما. وعليه، يعلن ديوي أن الفكرة التي لا تستهدف عملا يمكن إنجازه ليست فكرة بل ليست شيئا على الإطلاق إلا أن تكون وهما في ذهن صاحبها. وإذن، فليس للحقيقة من قيمة مطلقة، بل مجرد قيمة وظيفية عملية ونسبية بالضرورة.


2- الحقيقة كقيمة أخلاقية مطلقة: سقراط، كانط



ولكن ألا نسقط مرة أخرى في القول بتعدد الحقائق بتعدد وتعارض المنافع الفردية؟ ألا تنتهي البراغماتية إلى تصور لاأخلاقي تبرر فيه الغاية الوسيلة، مادام الصواب و الخطأ صفتان مؤقتتان متغيرتان ترتبطان بالنافع والضار أكثر من ارتباطهما بمبادئ عامة مجردة، ومادام أن الحقيقة لاتمثل غاية في حد ذاتها، بل مجرد وسيلة وأداة.
على العكس من التصور البرغماتي، تقدم لنا سيرة سقراط وفلسفته تصور أخلاقيا للحقيقة. فلم تكن غاية التفلسف عند سقراط تعلم المهارة الجدلية أو الحذق أو تكديس المعارف في الذهن، بل تدريب النفس على اكتساب الفضيلة، وبذلك تتطابق الحقيقة والكمال الأخلاقي، لقد كانت الحقيقة غاية في حد ذاتها، تعاش بصفة شخصية كما لاحظ كيركجارد، ولم يكتف سقراط بأن عاش الحقيقة فحسب، بل مات من أجلها! بمعنى ألا شيء مقدم على الحقيقة، بما في ذلك حياة المرء نفسها !
نجد نفس القيمة المطلقة اللامشروطة عند كانط حيث تتحول الحقيقة أو بالأحرى قول الحقيقة والصدق إلى واجب أخلاقي في ذاته، واجب مطلق غير مشروط ولايعرف الاستثناءات بغض النظر عن الظروف والملابسات حتى أنه يرفض حجة بنيامين كونسطان القائلة بأن قول الحقيقة ليس واجبا إلا نحو من لهم الحق أو يستحقون معرفة الحقيقة. ومادام كانط يقيس أخلاقية الفعل بمدى قدرتنا على تعميمه لجعله قانونا كونيا، فإن شرعنة الكذب تعني تعميمه أي تجريد التصريحات أو الأقوال من أية مصداقية وتجعل جميع الحقوق المؤسسة على العقود والوعود باطلة ولاغية وهذا ظلم وجور في حق الإنسانية جمعاء.
ماذا عنا نحن؟
غالبا ما تتعامل الذات مع الحقيقة بشكل براغماتي في أغلب مواقف الحياة، لكنها تطالب الغير بالتعامل مع الحقيقة.

علمية العلوم الانسانية

بين يدي الإشكال: مقدمة لابد منها- العلوم الإنسانية بين الفلسفة والعلوم الحقة: هذه بعض الأبجديات التي سنستخدمها مرارا في الدرس، فوجب استيعابها منذ البداية
صحيح أن العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع أو علم النفس أو الانثربلوجيا أو الاقتصاد، حديثة النشأة في القرن التاسع عشر، بيد أن الدراسات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية قد وجدت دوما مبثوثة في ثنايا المصنفات الفلسفية؛ بل إننا إذا تأملنا علما إنسانيا خاصا هو علم التاريخ نجده علما عريقا عراقة علم الرياضيات نفسه. ولكننا نلاحظ أيضا أن علم التاريخ نفسه ورغم عراقته لم يطرح وجوده أية إشكالية منهجية أو ابستملوجية إلا منذ القرن الثامن عشر. لماذا؟
لقد تزامن ذلك مع الميلاد الحديث للعلوم التجريبية التي قدمت نموذجا باهرا للعلمية سواء من حيث دقة المناهج والنتائج أو نجاعتها لما وفرته من قدرة على التحكم في الظواهر الطبيعية، ولن يكف هذا النموذج عن ممارسة تأثيره وجاذبيته منذ ذلك الوقت.
هكذا سيكون وجود العلوم الإنسانية موسوما منذ البداية بالتوتر بين قطبين، موجودان أصلا في الاسم نفسه "علوم / إنسانية"

* -"علوم" يحيل هذا المكون بشكل لا مفر منه على العلوم التجريبية التي تمثل كما أسلفنا- النموذج المثالي للعلمية؛
* "إنسانية": يحيل هذا النعت إلى الفلسفة من حيث أن هذه الأخيرة تتخذ بدورها الإنسان كموضوع لها

ويتضح ذلك في الجدول التالي:




طرح أولي للإشكال:
هل تستطيع العلوم الإنسانية أن تنأى عن الفلسفة ؟ وفي هذه الحالة هل ستسعى إلى التطابق مع العلوم الحقة؟ أم أنها ستزاوج بين مناهج الفلسفة ومناهج علوم الطبيعة؟ أم ستبدع لنفسها منهجها الخاص ها بحيث يلاءم خصوصية الظواهر الإنسانية؟
ماهي خصوصيات الظواهر الإنسانية أولا؟

* ظواهر فريدة، غير قابلة للتكرار وما يستخلص من دراسة ظاهرة واحدة يصعب تعميمه لنذرة الظواهر المماثلة،
* ظواهر معقدة، متعددة ومتداخلة الأبعاد يصعب عزلها بيسر أو تعيين دور كل منها في تحديد الظاهرة. والأبعاد المقصودة هي: البعد البيولوجي، الاجتماعي، الثقافي، النفسي، التاريخي، الاقتصادي...


إعادة صياغة الطرح الإشكالي: إذا علمنا أن العلم، كيفما كان، يتحدد من خلال موضوع ومنهج. فيمكننا طرح إشكالية "مسألة العلمية في العلوم الإنسانية" من زاويتين: زاوية الموضوع وزاوية المنهج

* إشكالية الموضوع: كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية و الدارس والمدروس معا هو الإنسان !
* إشكالية المنهج: بعد أن تعين العلوم الإنسانية موضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أ ي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم الحقة، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟

المحور الأول: إشكالية موضعة الظاهرة الإنسانية
يقصد بالموضعة مختلف الإجراءات المنهجية الهادفة إلى تعيين ظاهرة ما أو طائفة من الظواهر كموضوع علمي متمايز عن الذات الدارسة.
كيف يمكن للظاهرة الإنسانية أن تغدو موضوعا للعلم أي موضوعا لدراسة منهجية ؟ والحال أنها ظاهرة واعية والدارس والمدروس معا هو الإنسان ! 1-في سبيل موضعة الظاهرة الإنسانية: غالبا ما تطرح إشكالية الموضعة في مرحلة نشأة علم ما، عندما ينشغل رواده بتعريف موضوع علمهم ليتسنى لهم دراسته. في هذا الإطار نفهم تعريف إميل دوركايم لموضوع السوسيولوجيا بوصفه مرافعة من أجل موضعة الظاهرة الإنسانية. يرى دوركايم أن هذه الموضعة ممكنة لأن الظاهرة الاجتماعية شيء كباقي الأشياء. وتعريف الشيء عنده هو الموجود وجودا خارجيا بحيث يعطى للملاحظة؛ ولذلك تنص أولى قواعد المنهج السوسيولوجي على معاملة الظواهر الاجتماعية كأشياء مادامت تتميز بالخارجية والوجود المستقل عن وعي الأفراد الذين يعونها ويتمثلونها ويخضعون لقسرها ولا يسعهم اختراعها أو تغييرها. وبذلك تتحقق مسافة وانفصال منهجي بين الذات ( عالم الاجتماع) و الموضوع وهو هنا الظاهرة الاجتماعية: إن ظاهرة الزواج مثلا أو الظاهرة الدينية وغيرها من ضروب السلوك والتفكير والشعور الاجتماعي لا توجد فقط خارج وعي الفرد، بل إنها تمتاز أيضا بقوة آمرة قاهرة بحيث تفرض نفسها على الأفراد.
وبذلك يظهر ان دوركايم يراهن على تحييد الوعي أي إفراغ الظواهر الإنسانية من خاصية الوعي ليتسنى موضعتها، لأن الوعي "عدو العلم" كما يقول ليفي شتروس

فقرة انتقالية: هل يكفي تعريف الظاهرة الاجتماعية / الإنسانية بالخارجية والقسر والاستقلال عن وعي الفرد لحل مشكلة الموضعة وتداخل الذات والموضوع؟

2- عوائق الموضعة
يرى جون بياجي أن موضعة الظاهرة أكثر تعقيدا نظرا لتداخل الذات والموضوع على أكثر من صعيد.

* فالذات الملاحظة بقدر ما تلاحظ غيرها وتجرب على غيرها، فإنها في نفس الوقت تلاحظ ذاتها وتجرب على ذاتها، وينتج عن ذلك أن تفاعل الذات والموضوع في فعل الدراسة يؤثر في سير الظاهرة المدروسة مثلما يؤثر في الذات الدارسة
* غالبا ما تكون الذات الدارسة حاملة لمعرفة عفوية، مسبقة وحدسية حول الظاهرة المدروسة. لأن الدارس وقبل أن يكون عالم اجتماع مثلا فهو فاعل اجتماعي يتعرض لتأثير المعرفة الاجتماعية المتداولة. نقول إذن إن تحقيق القطيعة الابستملوجية بين المعرفة العفوية والمعرفة العلمية ليس بالأمر اليسير كما هو حال في علوم الطبيعة
* يضاف إلى كل ما سبق الالتزام الفلسفي أو الايديلوجي لعالم الإنسانيات بحيث قد يميل إلى التبرير أو الإدانة ويجانب الحياد فيتجاوز الوصف إلى التقييم، وهو ما يسمى بمشكلة "أحكام القيمة"

خلاصة: إن السعي الحثيث لعلماء الإنسانيات من أجل تعريف موضوع علمهم وتحيييد الوعي وابتكار تقنيات لتحقيق القطيعة مع المعرفة العفوية لدليل على خصوصية الموضوع وما تطرحه موضعته من عوائق.
المحور الثاني: العلوم الإنسانية أمام نموذج علوم الطبيعة: مشكلة الفهم والتفسير
بعد تعيين العلوم الإنسانية لموضوعها، كيف لها أن تقاربه؟ وهل تستوفي هذه المقاربة شرط العلمية وعن أي شرط نتحدث ؟ إذا كان النموذج الذي أتبث فائدته وجدواه لمقاربة الظواهر هو نموذج العلوم التجريبية، فهل للعلوم الإنسانية أن تقتبس هذا المنهج، أم أنها مطالبة بالتمرد ضد استبدادية نموذج علوم الطبيعة لتشق لنفسها طريقها المنهجي الخاص بها والذي يلائم خصوصية الظواهر الإنسانية؟

1- العلوم الإنسانية ومنهج التفسير: يقصد بالتفسير هنا كشف العلاقات الثابتة الموجودة بين حادثتين أو أكثر، وإقامة علاقات سببية بينها بموجب ذلك. وهذا هو التفسير السببي، أما التفسير الغائي فقد أهمله العلم. ولايلائم التفسير السببي سوى الظواهر المتماثلة المطردة والقابلة للتكرار ليتم التعميم ( تفسير سقوط الأجسام بقانون الجاذبية)
وقد ارتبط منهج التفسير بالاتجاه الوضعي وخصوصا لدى المدرسة السوسيولوجية الفرنسية مع دوركايم ومارسيل موس. في محاولتها الرقي بعلم الاجتماع إلى مصاف العلم الدقيق بعيدا عن المناهج التأملية.
وبما أن التفسير يقوم – كما أسلفنا – على ربط ظاهرة بأخرى ربطا سببيا، فإننا نعثر في دراسة دوركايم لظاهرة "الانتحار" على حالة تكاد تكون نموذجية لمنهج التفسير في العلوم الإنسانية: فبناءا على إحصائيات الانتحار في عدد من الدول الأوروبية، خلص إلى أن معدلات الانتحار تتناسب عكسيا مع درجة التماسك الديني، لذلك ينتحر البروتستانت أكثر من الكاثوليك؛ و مع درجة التماسك الأسري، لذلك ينتحر العازبون أكثر من المتزوجين، والمتزوجون بدون أطفال أكثر من ذوي الأطفال؛ وأخيرا مع درجة التماسك السياسي، إذ ترتفع معدلات الانتحار في أوقات الهدوء السياسي والسلم الاجتماعي أكثر من فترات الحروب والأزمات الدبلوماسية .

مثال2: ينحصر موضوع علم النفس ، حسب المدرسة السلوكية، في دراسة السلوك الإنساني القابل للملاحظة، منظورا إليه كرد فعل على مثيرات قابلة للملاحظة بدورها، وكشف القوانين المتحكمة في علاقات المثيرات بالاستجابات، والامتناع عن صياغة فرضيات حول ما يقع داخل العلبة السوداء أي الوعي الإنساني

2-عوائق منهج التفسير وامكانيات منهج الفهم: لقد لجأ دوركايم إلى المقاربة الإحصائية لظاهرة الانتحار من أجل غربلة المحددات الذاتية، والفردية للظاهرة والاحتفاظ فقط بالمكون الجمعي للظاهرة الذي يهم السوسيولوجيا، والذي يمكن الوصول بصدده إلى تفسير سببي قابل للتعميم.
ولكن ألا يؤدي تحليل الظواهر الإنسانية على غرار الظواهر الطبيعية إلى إفراغ الأولى من أهم مقوماتها، من مكونها الداخلي أي الدلالات والنوايا والمقاصد والاكتفاء بالمحددات الخارجية للفعل ؟
بهذه الأسئلة ننفتح على دعاة المنهج المقابل، منهج الفهم والذي صاغته عبارة ديلتاي الشهيرة: " إننا نفسر الطبيعة، لكننا نفهم ظواهر الروح"
ولكن ماذا نقصد أولا بالفهم؟
لأن الفاعل الإنساني يمنح دلالة لأفعاله وللعالم من حوله ويسلك وقف غاية من حيث هو كائن واع، فالمقصود بالفهم - في مناهج العلوم أو الميتودلوجيا - إدراك الدلالة التي يتخدها الفعل بالنسبة للفاعل، وتتكون هذه الدلالات من المقاصد والنوايا والغايات التي تصاحب الفعل وتتحدد بالقيم التي توجهه، وغالبا ما يتم النفاذ إلى هذه الدلالات بواسطة فعل "التأويل"، الذي اقترن ظهوره بالدراسات اللاهوتية في سعيها إلى استكناه مقاصد النصوص المقدسة ودلالاتها الخفية.
ويقدم لنا التحليل النفسي مثالا نموذجيا لعلم إنساني يكاد يعتمد كلية على الفهم بمعنى التأويل : إذ تُتناول مختلف الظواهر النفسية السوية منها والمرضية، بما في ذلك الأحلام كعلامات حاملة لدلالات يتعين تأويلها وذلك بتجاوز المعاني الظاهرة والمقاصد الواعية، لدرجة دفعت الكثيرين إلى التساؤل عما إذا كان التحليل النفسي علما أو فنا في نهاية المطاف !
أما في علم الاجتماع، فيقدم لنا ماكس فيبر في دراسته الرائدة حول "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" مثالا آخر لتطبيق منهج الفهم يتركيزه على القيم المشتركة بين كل من السلوك الرأسمالي والموقف الأخلاقي البروتستانتي. وليس غريبا أن يقع اختيار فيبر على ظاهرة فريدة هي نشأة الرأسمالية في أوروبا، لأن منهج الفهم لا يهدف أصلا إلى اكتشاف انتظامات أوعلاقات سببية قابلة للتعميم على نطاق واسع - 3-حدود منهج الفهم وعوائقه: يستدعي منا منهج الفهم بدوره بعض الملاحظات النقدية، وأهمها لامبالاته تجاه ضرورة التمييز، الذي يحرص منهج التفسير على إقامته، بين الذات والموضوع، ومادام الفهم ينصب على الدلالات ويقوم على ضرب من التعاطف والمشاركة الوجدانية بين الدارس وموضوع دراسته، ألا يخشى أن يسقط الدارس قيمه ودلالاته الخاصة على الظاهرة ؟ وكيف لنا آنذاك أن نميز بين دلالات الفعل لدى الفاعل/موضوع الدراسة ودلالاتها لدى الدارس؟
لعل هذا هو ما حذا بغاستون غرانجي إلى تشبيه منهج الفهم بالتفكير الأسطوري السحري حيث تسقط الذات خصائصها على الموضوع، وتنصهر فيه خلاصة عامة للدرس:
بأي معنى وضمن أية شروط يمكن الحديث عن "علوم إنسانية" ؟ يحاول بعض علماء الإنسانيات استلهام مناهج العلوم الطبيعية التي أثبتت فعاليتها، بينما يرافع آخرون من أجل ابتكار منهج أصيل بدعوى عدم وجود معيار أو نموذج وحيد للعلمية. وبعبارة أخرى، يسعى البعض إلى الاستفادة من المكتسبات المنهجية للعلوم الحقة، بينما يجتهد آخرون لتأسيس نموذج مغاير للعلمية. إن هذه الإشكالات الميتودولوجية التي تعترض العلوم الإنسانية نابعة أساسا من خصوصية الموضوع وهو الظاهرة الإنسانية

العنف

تمهيد لفهم إشكالات الدرس:
عن العنف: ننطلق في هذا الملخص من تعريف العنف كما وردفي"المعجم الفلسفي" لــ "جميل صليبا": "كل فعل يخالف طبيعة الشيء، ويكون مفروضاً عليه، من خارج فهو، بمعنى ما، فعل عنيف. والعنيف هو أيضاً القوي الذي تشتد صورته بازدياد الموانع التي تعترض سبيله كالريح العاصفة، والثورة الجارفة"
المحور الأول: أشكال العنف


طرح الإشكال:
هل تقتصر أشكال العنف على العنف المادي الفيزيائي العضلي كما يظهر للوهلة الأولى أم تشمل أيضا أشكالا من العنف الخفي الرمزي و اللطيف؟ ولكن كيف للعنف أن يكون خفيا لطيفا دون أن يفقد صفته كعنف والحال أن سمة العنف هو القوة التي تكسر كل مقاومة !؟ هل العنف محتاج للتخفي والتنكر ؟

1- العنف المادي: عنف على منوال الطبيعة ولكنه يتجاوزها

لا تعرف الطبيعة غير العنف المادي، وحيث أن الإنسان كائن طبيعي بدوره، ذو جسم وعضلات، فإن أحد أشكال العنف التي يمكن تصورها هي اصطدام هذه الأجسام والعضلات بهدف كبح حركة بعضها البعض أو إلحاق الأذى بها. يقول فرويد: " كانت القوة العضلية الأكثر تفوقا هي التي تقرر من يملك الأشياء ومن تسود إرادته، وسرعان ما أضيف إلى القوة العضلية واستعيض عنها باستخدام الأدوات: فالفائز هو من يملك الأسلحة الأفضل أو يستخدمها بالطريقة الأمهر. ومن اللحظة التي أدخلت فيها الأسلحة بدأ التفوق العقلي يحل محل القوة العضلية". لقد أصبحت الأدوات وهي استمرار لأعضاء الجسم أدوات العنف المادي الفعال بلا منازع، وقد ساهمت التكنولوجيا كما يقول إيف ميشو YVES MICHAUD في تطوير وسائل هذا العنف المادي مستفيدا من تحول هذه الوسائل إلى سلع تخضع ككل سلعة إلى مبدأ الربح في إنتاجها وتبادلها، وهكذا عملت التجارة الدولية للأسلحة على نشر وسائل العنف وجعله أكثر تخريبا وفتكا، وفي متناول كل الأفراد والجماعات. كما ساهم التقدم التقني في تطوير الآلات والأسلحة المستخدمة في العنف، مما جعل هذا الأخير مختلفا عما كان عليه في السابق، سواء من الناحية الكمية أو من الناحية الكيفية والنوعية.
بيد أن العنف المادي ومهما بلغ جبروت وسائله يظل عنفا مكلفا للطرفين لأنه يستدعي مقاومة متناسبة مع القوة الأولية وفق مبدأ الفعل ورد الفعل في الفيزياء. مما يضطر العنف إلى التخفي لتكون نتائجه أبلغ تأثيرا وأقل تكلفة خصوصا إذا ضمن تواطؤ الضحايا: إنه عنف يخفي عنفه ! مما يفسر تخلي الدول الاستعمارية مثلا عن الغزو العسكري لصالح غزو ثقافي أكثر تأثيرا وأقل انكشافا.

2-العنف الرمزي: عنف يتخفى ليضمن تواطؤ الضحايا

يتحدث بيير بورديو عن العنف الرمزي الذي هو عنف غير فيزيائي، يتم أساسا عبر وسائل التربية وتلقين المعرفة و الإيديولوجيا، وهو شكل لطيف وغير محسوس من العنف، و غير مرئي حتى بالنسبة لضحاياهم أنفسهم. وينتقد بورديو الفكر الماركسي الذي لم يول اهتماما كبيرا للأشكال المختلفة للعنف الرمزي، مهتما أكثرا بأشكال العنف المادي والاقتصادي. كما أشار بورديو إلى أن العنف الرمزي يمارس تأثيره حتى في المجال الاقتصادي نفسه، فالسلع المعلن عنها عبر الإشهار في وسائل الإعلام أو المعروضة في واجهات المتاجر بقدر ما تؤجج الرغبة، بقدر ما تمارس عنفا اقتصاديا وإنهاكا مستمرا للقدرة الشرائية العاجزة أصلا.
إن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم. ولذلك فهم غالبا ما لا يعترفون به كعنف؛ بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل داخل المجتمع. وعلى سبيل المثال، فالعنف يتسلل حتى إلى قلب العلاقات العاطفية بين الجنسين، إذ يرى عالم الاجتماع الأنجلييزي غيدنز أن المرأة كانت في الماضي بمنزلة أحد المنقولات في حيازة الرجل ومن ثم عوملت بالعنف الذي تقتضيه هذه الحيازة، غير أن الاحترام والحب يمكن أن يكون أيضا صورة من صور الهيمنة الأقوى أكثر من استخدام القوة المجردة. فلقد عوملت المرأة الفاضلة بروح المودة والتصديق والتقدير لتستمر في إلزام نفسها بالفضيلة والعفة في المجتمع الأبوي!
ومن هذه الزاوية يمكن، حسب بورديو فهم الأساس الحقيقي الذي تستند إليه السلطة السياسية في بسط سيطرتها وهيمنتها؛ فهي تستغل بذكاء التقنيات والآليات التي يمرر من خلالها العنف الرمزي، والتي تسهل عليها تحقيق أهدافها بأقل تكلفة وبفعالية أكثر، خصوصا وأن هناك توافقا بين البنيات الموضوعية السائدة على أرض الواقع وبين البنيات الذهنية الحاصلة على مستوى الفكر.
وفي سعيه الدؤوب إلى إخفاء نفسه كعنف، قد يتخد أيضا شكل عنف طقوسي أو مقدس، عندما يصبح جزءا من طقوس أو شعائر دينية: صحيح أن القرابين تقتصر اليوم على الأضاحي الحيوانية لكنها كانت في ما مضى قرابين بشرية. فياله من عنف يواري باتخاده شكل التقوى والقربات للآلهة !
المحور الثاني: العنف في التاريخ


طرح الإشكال:
كان قتل قابيل لهابيل أول حدث يقصه علينا القرآن الكريم و يكسر حالة اللاحدث التي أعقبت نزول سيدنا آدم إلى الأرض، ليكون بذلك أول حدث عرفه تاريخ الإنسانية. ما دلالة أن يستفتتح التاريخ الإنساني بحادثة قتل وعنف؟ هل كان العنف مجرد فاتحة للتاريخ كما توحي بذلك هذه الواقعة؟ أم أنه استمر ملازما للصيرورة التاريخية؟ وكيف للعنف أن يضطلع بدور في التاريخ رغم أنه خراب وهدم وإفناء ؟
هل العنف مجرد ظاهرة عابرة و نتيجة لأسباب محددة كما تذهب إلى ذلك الماركسية حين أرجعت أصل العنف إلى التفاوت الطبقي ؟ أم أنه على العكس من ذلك عنف مؤسس و محايث للتاريخ الإنساني؟

1-العنف المؤسس و المدشن للتاريخ: طوماس هوبز، فرويد

ماذا نقصد بكون العنف مؤسسا و مدشنا للتاريخ؟ نقصد بذلك أن ما هو إنساني، ما يميز الإنسان عن الحيوان من قبيل المؤسسات والأخلاق والتقديس... لا يظهر إلا عقب العنف وبفضله.
أسوة بباقي منظري العقد الاجتماعي، يتصور هوبز أن الإنسانية مرت بحالة الطبيعة قبل ولوجها حالة الاجتماع. ولما كان العدوان والحذر والتنافس غالبا على طبيعة الإنسان لدرجة تجعل منه ذئبا لأخيه الإنسان، فإن حالة الطبيعة المذكورة، وفي غياب سلطة عليا، تتحول إلى حالة حرب الكل ضد الكل، أي حالة من العنف المعمم الذي يحيل حياة الإنسان إلى حياة حيوانية بئيسة لا ينعم فيه أحد بالأمن والأمان مهما بلغت قوته، وحتى في الحالة التي يهدأ في الاقتتال ظاهريا فإنه يظل مخيما على شكل إرادة صراع واضحة ومؤكدة، مثل سحابة كثيفة مخيمة تنذر بالعاصفة والمطر.
في مثل هذه الأحوال ولد الاجتماع و الدولة كخيار قسري للخروج من حالة العنف المعمم، فيكون العنف بذلك مؤسسا للتاريخ إذا افترضنا أن هذا الأخير لا يبدأ إلا مع الاجتماع و المؤسسات والدولة.
إن العنف لا يدشن التاريخ السياسي فحسب كما رأينا مع هوبز، بل التاريخ الأخلاقي والديني أيضا: يخبرنا فرويد في كتابيه: "الطوطم والطابو" و " موسى والتوحيد" بأن قتل الأب هي الواقعة التي تؤرخ لبداية المؤسسات وحظر المحارم وقواعد التحريم بصفة عامة: لقد كان هذا الأب ذكرا قويا، أبا للعشيرة مستحوذا على نسائها، مقصيا باقي الذكور من أبنائه، الذين لم يجدوا أمامهم من حل سوى الاتحاد لقتله و "أكله". ولكن مشاعر الذنب التي أعقبت قتله ومشاعر الخوف من عودته وانتقامه، دفعتهم إلى تحويله إلى طوطم أي تمثال أو رمز للعبادة، كما حرموا على أنفسهم القتل و التشبه بالأب في الاستحواذ الجنسي على الأم وبناتها أي حظر المحارم... وهي على الجملة عماد الحياة الأخلاقية والدينية.
هكذا يبتبدى العنف كحدث مؤسس للتاريخ، كظاهرة قبل-تاريخية، تسبق التاريخ وتفتتحه، ولكن ألا يمكن للسيرورة التاريخية نفسها أن تفرز العنف أثناء نموها ؟

2- العنف كظاهرة عابرة في التاريخ: الماركسية

خلافا لهوبز و فرويد، فالعنف لم يظهر حسب ماركس إلا كنتيجة للانقسام الطبقي الذي أعقب المشاعة البدائية، وبعبارة أخرى فالصراع الطبقي هو المولد لظاهرة العنف في التاريخ. يقول ماركس: " لم يكن تاريخ أي مجتمع لحد الآن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات، لقد كان المضطهدون والمضطهدون في حالة تعارض ومواجهة وأقاموا بينهم حروبا لا تتوقف تنتهي بتغيير المجتمع برمته أو هلاك الطبقتين المتصارعتين معا"
وفي مسرح الصراع هذا، تغير المتصارعان المتواجهان و لكن الصراع ظل قائما: نجد في المجتمع الروماني القديم طبقتين متمايزتين: هما السادة والفرسان من جهة والأقنان والعبيد من جهة أخرى. كما نجد في القرون الوسطى السادة والشرفاء من جهة، والأقنان والحرفيون العاديون من جهة أخرى؛ وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث، نجد البورجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) في مقابل البروليتاريا. ولن يتسنى إلغاء هذا الصراع العنيف إلا بإلغاء أسبابه ودواعيه وهي الطبقية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، عندها سيحل استغلال الإنسان للطبيعة محل استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. ولكن ألن تصبح هذه الأخيرة موضوعا و ضحية للعنف بدورها !؟
بين ماركس إذن أن العنف مجرد ظاهرة تاريخية ناتجة عن الصراع الطبقي الذي هو المحرك الأول لعجلة التاريخ، والمسؤول عن الصيرورة التاريخية والعامل الحاسم في الانتقال من نمط إنتاجي لآخر لدرجة أن انجلز يشبه الصراع بالمرأة القابلة التي تستطيع توليد مجتمع ولو كان هرما La violence est l' accoucheuse de toute vielle societé! وهذا ما دفع بالماركسيين إلى شرعنة ما يسمى بــ "العنف الثوري" أي تلك الأشكال من العنف التي تستهدف تقويض النظام وبث الفوضى في أوصاله وتخريب بنيته التحتية و منشئاته للتعجيل بزواله عندما تعجز الآليات الديمقراطية عن تحقيق الانتقال المنشود.
المحور الثالث: العنف والمشروعية

ترتد إشكالية العنف والمشروعية في نهاية التحليل إلى إشكالية الدولة بين الحق والعنف التي سبق أن عالجناها في المحور الثالث من درس الدولة، وذلك لأن مشروعية العنف أو عدم مشروعيته تتحدد دائما بالقياس إلى قوانين أو مؤسسات قائمة أو مبادئ أخلاقية،
ثم أي عنف هذا الذي نبحث في مشروعيته؟ هل هو عنف الأفراد ضد بعضهم البعض؟ كلا. فهذا العنف يفقد مبرره ومشروعيته منذ اللحظة التي يظهر فيها المجتمع. وحيث أن الدولة هي الطرف الوحيد التي بات يحتكر اليوم إستعمال العنف، فإن العنف الذي نتحدث عن مشروعيته إما أن يكون عنفا صادرا عن الدولة وأجهزتها تجاه مواطنيها أو بين الدول ضد بعضها البعض، ولايمكن أن يكون عنفا صادرا من الفرد اللهم إلا إذا كان موجها ضد الدولة نفسها، ينازعها السيادة أو السلطان. وبناءا عليه يمكن الرجوع إلى محور الدولة بين الحق والعنف من أجل تبين هذه العلاقة الملتبسة القائمة بين العنف والمشروعية

ملحق: اللاعنف عند غاندي كرفض مطلق للعنف:

اكتفت المواقف التي أتينا على ذكرها بالبحث في أشكال العنف أو دوره في التاريخ، في حين أن غاندي يرفضه جملة وتفصيلا وبشكل مطلق وراديكالي مهما كان شكله أو غايته!
يعرف غاندي اللاعنف كموقف كوني تجاه الحياة، إنه "الغياب التام لنية الإساءة تجاه كل ما يحيا" بمعنى أن اللاعنف مثله مثل العنف لا يقع على مستوى الفعل فقط بل والنية أيضا. ولكن كيف نتعامل مع العنيفين والمستبدين و الظلمة؟ يجيب غاندي: عن طريقة المقاومة الأخلاقية والذهنية، أي رفض العنف والامتناع عن ممارسته بالفعل أو بالنية مهما كانت الغايات والأهداف. فمواجهتي لسيف المستبد كما يرى غاندي لا تكون باستلال سيف أكثر مضاءا وحدة يفله، بل بأن أخيب أمله في أن يراني أواجهه بمقاومة مادية، فهو سيراني بدلا من ذلك أواجهه بمقاومة روحية تفلت من تقديره وتحكمه.
يذكرنا موقف غاندي بموقف المسيح عليه السلام الذي ينصح الإنسان بأن يدير خده الأيمن لمن يلطمه على خده الأيسر !، ولكن ما هي فعالية مثل هذا الموقف في عالم يبتكر يوما بعد يوم أسئلة أكثر فتكا وأشد تنكيلا !؟

الحق والعدالة

المحور الأول: الحق بين الطبيعي والثقافي

الحق والعدالة
طرح الإشكال:

ما الذي يشرعن ويبرر إعلان الحرية أو المساواة أو غيرها حقا من حقوق الإنسان؟ أيرتبط ذلك بإرادة المشرعين والقوانين الوضعية أم لأنها حقوق محايثة للطبيعة الإنسانية؟ وبعبارة أخرى، يمكن تأسيس وتأصيل الحق خارج كل ثقافة وتشريع ومواضعة أم أن الحق يظل نسبيا بنسبية القوانين الوضعية التي تجسده على أرض الواقع؟

معالجة الإشكال:

1- بحثا عن مرجعية كونية مؤسسة للحق: فكرة الحق الطبيعي

أ- تمهيد: لماذا تأسيس الحق على ما هو طبيعي؟
لقد لوحظ على الدوام أن الحق المستمد مما هو ثقافي يسري عليه ما يسري على الثقافة من تنوع واختلاف باختلاف المجتمعات والحقب التاريخية، مما دفع باسكال أن يكتب ذات مرة ساخرا: "يا لبؤس العدالة التي يحدها نهر ! أفكار صائبة هنا، خاطئة وراء جبال البرانس" هنا بالضبط تكمن الأهمية النظرية لمقولة الحق الطبيعي التي تؤصل للحق في الطبيعة وفي الطبيعة الإنسانية خاصة، بشكل مستقل عن الثقافة وإرادة المشرعين، لأن الطبيعة مرجع كوني و سابق منطقيا وزمنيا على المجتمع والثقافة..


ب- معلومات إضافية: ثلاث نماذج لفلسفات الحق الطبيعي:
قدم هوبز واحدة من أهم صياغات نظرية الحق الطبيعي في كتابه التنين، حيث عرَّفه بأنه الحرية التي لكل إنسان في أن يتصرف كما يشاء في إمكاناته الخاصة للمحافظة على طبيعته وحياته الخاصة، وأن يفعل كل ما يرتئيه نظره وعقله ناجعا لذلك. وعليه فالحق الطبيعي أو حق الطبيعة هو الحق في الحياة والحق في المحافظة عليها والحرية المطلقة في حماية الوجود البيولوجي والدفاع عنه.
ونجد عند جون لوك التعبير الأكثر وضوحا عن الأساس المنهجي العام لنظريات الحق الطبيعي إذ يقول:" حالة الطبيعية هي حالة الحرية الكاملة للناس في تنظيم أفعالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم ... وهي أيضا حالة المساواة (...) إذ ليس هناك حقيقة أكثر بداهة من أن المخلوقات المنتمية إلى النوع والرتبة نفسها المتمتعة كلها بالمنافع نفسها التي تمنحها الطبيعة وباستخدام الملكات نفسها، يجب أيضا أن يتساوى بعضهم مع بعض"
أما روسو فيقول في كتابه "أصل التفاوت بين الناس": " إن التنازل عن الحياة أو الحرية وأيا كان الثمن هو إهانة للطبيعة والعقل، ولكن على افتراض إمكان التصرف الإنسان في حريته كما يتصرف في ماله، فإن الفرق يظل بينا جدا ... أن الحرية، إذ هي هبة من الطبيعة وقد وهبت لهم بصفة كونهم بشرا، ... وهكذا فمادام إنشاء العبودية يقتضي إكراه الطبيعة بالشدة والعنف، فقد وجب أيضا أن تغير الطبيعة لتأييد هذا الحق: والفقهاء الذين قضوا بكل وقار بأن ولد العبد يولد عبدا، كان معنى قضائهم هذا أن الإنسان لا يولد إنسانا"


ج- حقوق الإنسان الطبيعية أساس حقوقه المدنية:
تؤكد نظريات الحق الطبيعي على وجود حقوق أساسية محايثة لطبيعة الإنسان مثل الحياة والحرية والمساواة، بوصفها حقوقا سابقة على كل اجتماع أو مواضعة نسبية مشروطة ثقافيا أو تاريخيا، و لا يمكن تصور الإنسان كإنسان بدونها. ورغم ما نلاحظه من إختلاف بين منظري الحق الطبيعي في فهم الطبيعة الإنسانية وكذا حالة الطبيعة، إلا أنهم يتبعون نفس الإجراء المنهجي المتمثل في تجريد الإنسان من كل المحددات الثقافية والتاريخية من أجل استنباط حقوق محايثة لطبيعته؛ ثم إن هذا الإختلاف يتلاشى، لأن نظريات الحق الطبيعي تتحول في النهاية إلى نظرية للعقد الإجتماعي ذلك أن تأسيس الحق على ما هو طبيعي، لا يعني استبعاد الثقافة والاجتماع والتعاقد، فإذا كانت الطبيعة تعطي للحق مصدره ومشروعيته، فإن التعاقد هو الذي يضمن استمراريته. وواضح أن الإحالة على "الطبيعة" هنا لايعني سوى تأسيس الحق على مرجعية سابقة على كل مرجعية تاريخية: فالطبيعة سابقة على كل ثقافة وحضارة، على كل مجتمع ودولة، وبالتالي ، فهي مرجعية كلية مطلقة، ومن ثَمّ فالحقوق التي تتأسس عليها هي حقوق كلية مطلقة كذلك

2- الحق الوضعي: حق نسبي بنسبية مبادئه

رغم القوة النظرية والجاذبية التي تتمتع بها نظرية الحق الطبيعي، إلا أن البعض لا يرى في مرجعية الطبيعة سوى مفهوم إفتراضي يفتقد إلى الإجماع حول مضمونه: إذ يبدو أن البشر عرفوا على الدوام أشكالا من التنظيم مَهْما كانت بدائية بسيطة، مما يشكك في حالة الطبيعة المستخدمة كفرضية للإستنباط الحقوق الطبيعية؛ إضافة إلى صعوبة تحديد محتوى الطبيعة الإنسانية الذي تعرض في القرن العشرين للمراجعة سواء من طرف العلوم الإنسانية أو الفلسفة الوجودية. مما يجعل الإجماع حول مبادئ عقلانية كونية أمرا مستبعدا، لأن هذه المبادئ نفسها تتجاهل المحددات الثقافية النسبية. ألا ينبغي بالأحرى الحديث عن الحق في بعده النسبي الثقافي؟
تأسيسا على هذه الملاحظات، لاترى الوضعية القانونية في أطروحة الحق الطبيعي سوى إنشاءات ميتافيزيقية لاتحقق شروط العلمية كما تفهمها الإبستملوجيا الوضعية الملتزمة بأحكام الواقع (ماهو كائن) لابأحكام القيمة (ماينبغي أن يكون). وهكذا فالحق عند هانز كيلسن مثلا لايستمد قوته ومصدره إلا من القوانين التي تبلوره وتحتم العمل به، لأن القانون يقول الحق تبعا للإختيارات والأولويات بما يعكس خصوصية المجتمع وتطوره التاريخي وبما يترجم موازين القوى داخل البنية الإجتماعية وهي موازين ديناميكية متغيرة بتغير التشكيلات الإجتماعية. ومن وجهة نظر فقه القانون والدراسة العلمية، فلا وجود لحق أو عدالة خارج القانون الوضعي الذي يوفر قوة الإلزام الضرورية لتحويل الحق إلى واقع معيش مستعينا بالمؤسسات التنفيذية والقضائية.


معلومات إضافية (ملخص نص هانز كيلسن من كتابه نظرية خالصة في الحق):
تترتب عن هذه المقاربة نتيجتان: الأولى هي إستبعاد كل حديث عن الحق في بعده الأخلاقي المثالي المُعوِّل على الإلتزام الذاتي للفرد، والحرص على ألا يدعي النص القانوني صفة الإطلاقية بإشهاره للصفة الأخلاقية. فالقانون والأخلاق دائرتان منفصلتان. لأن القانون نسق تراتبي من القواعد التي تستمد قيمتها من هذا النسق لا من مرجعية متعالية مفارقة؛ تترتب عن ذلك عضويا نتيجة ثانية، وهي استحالة المفاضلة بين الأنظمة القانونية، لعدم وجود معيار أسمى يسمح بالمفاضلة: فقد يعتبر أحدهم النظام الليبرالي عادلا والشيوعي ظالما إعتمادا على معيار الحرية الفردية، في حين يغدو النظام الليبيرالي ظالما والشيوعي عادلا من منظور الأمان الإجتماعي ! ولكن مالسبيل للمفاضلة بين الحرية والأمان الإجتماعي؟ لاسبيل للمفاضلة حسب كيلسن إلا اعتمادا على معايير سيكلوجية ذاتية لاتحظى بأي إجماع، إذ يصعب الإجماع على معايير بديهية للعدل والكرامة والحق.
المصدر: الكتاب المدرسي لمادة الفلسفة-الشعبة الأدبية-طبعة 1996 ص 192



3- خلاصة نقدية: إذا كانت العدالة هي المثل الأعلى للحق، فإنها لا تختزل إلى القوانين الوضعية

من منظور الوضعية القانونية، يصبح الحق وضعيا متجذرا في الثقافة بمحدداتها الإجتماعية والإقتصادية والتاريخية، غير مطلق بل نسبي بنسبية هذه المحددات. ولكن إلى أي حد يمكن المضي في المطابقة بين الحق والقانون الوضعي، أي بين المشروع والقانوني؟ يرى ليو ستراوس أن رفض فكرة الحق الطبيعي يعني أن كل حق فهو وضعي من صنع المشرعين ومحاكم مختلف البلدان، لكن وجود قوانين وقرارات جائرة كقوانين المستعمر والطغاة، يلزم عنه وجود معيار للعدل والظلم يستقل عن الحق الوضعي ويسمح بتقييمه. وقديما أعلن شيشرون أنه ما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى، لأننا لانملك قاعدة غير الطبيعة لتمييز حَسَنِ القوانين عن قبيحها.
يتبين مما سبق أن الحق قيمة مركبة شأنها شأن باقي القيم الأساسية التي تحكم الفاعلية البشرية: فهو طبيعي وثقافي، كوني ونسبي في نفس الوقت. طبيعي كوني لأنه يمس الماهية الإنسانية، ويخاطب الإنسان بما هو إنسان؛ وثقافي نسبي لأن بتحوله من فكرة ومبدأ إلى واقع معيش يتجذر في القيم والمؤسسات والتاريخ الخاص بهذا المجتمع أو ذاك.

المحور الثاني: العدالة كأساس للحق

أنظر الفقرة السابقة وكذا المحور الموالي


المحور الثالث: العدالة بين الحق والمساواةا


طرح الإشكال:

للعدالة عدة معان، يعرفها المعجم الفلسفي لجميل صليبا كالتالي:"المبدأ المثالي او الطبيعي او الوضعي الذي يحدد معنى الحق... وتنقسم إلى عدالة تبادلية قائمة على أساس المساواة؛ وعدالة توزيعية تتعلق بقسمة الأموال والكرامات بين الأفراد بحسب ما يستحقه كل واحد منهم" ونستخدمها هنا كمرادفة للحق، منظورا إليه من حيث تعلقه لا بالذات في فرديتها، بل في علاقتها بأقرانها داخل جماعة بشرية ما من حيث كونهم ذوات حقوقية متكافئة ومتماثلة. وبهذا المعنى ولذلك قيل بأن العدالة تهدف إلى خلق المساواة بين هذه الذوات، ولكن هل الجميع متساوون فعلا؟ إذا كانوا متساوين في الاعتبار القانوني فعل هم متساوون في المواهب والحهد المبذول؟ بعبارة أخرى هل يمكن للعدالة كمساواة أن تنصف جميع أفراده؟ وماذا نقصد بالإنصاف أولا؟

في الوقت الذي تهدف فيه المساواة إلى تحقيق التماثل والتكافؤ الرياضي بين الأفراد بغض النظر عن اختلافاتهم وتفاوتاتهم محاولة طمس هذه االتفاوتات أو تحييدها، فإن الإنصاف يهدف إلى إعطاء كل ذي حق حقه مراعيا بذلك مبدأ الاستحقاق، أي أنه يسعى إلى مكافأة التفاوتات من جهة ، أو الحد من الهوة التي قد تنتج عنها من جهة أخرى.

معالجة الإشكال:

1- العدالة كمساواة


إذا كانت أغلب الدساتير والإعلانات والنظم الأخلاقية المعاصرة تنص اليوم وبصراحة على المساواة الاعتبارية لجميع أفراد النوع الإنساني كحق طبيعي، فإن هذا الاعتراف الذي يبدو اليوم بديهيا، لم يكن كذلك في الماضي: إذ اعتبر المواطن أفضل من الأجنبي، والرجل أسمى من المرأة والأطفال، والسيد أرقى من العبد
ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي آلان Alain: "ما الحق؟ إنه المساواة (...) لقد ابتكر الحق ضد اللامساواة. والقوانين العادلة هي التي يكون الناس أمامها سواسية، نساءا كانوا أم رجالا أو أطفالا أو مرضى أو جهالا. أما أولئك الذين يقولون إن اللامساواة من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا بئيسا"
وبعبارة أخرى، فجوهر العدالة يكمن في هذه الحالة في التماثل والمساواة بل في المساواة الرياضية A=B
ومن أمثلة ذلك: المساواة أمام القضاء، تكافؤ الحظوظ في نيل المناصب، الترشح والتصويت، المساواة بين الرجل والمرأة...
وليس من الغريب أن يستأثر مبدأ المساواة بجاذبية خاصة بحيث رفعته الكثير من الحركات النضالية كمطلب وأيديولوجيا تعبوية، ولكن المآل الفاشل لتجربة الأنظمة الاقتصادية الاشتراكية في إصرارها على تحقيق نوع من المساواة واللاطبقية، من خلال سياسة توحيد الأجور وتقزيم الملكية الخاصة لدرء الفورارق والتي أدت إلى إبطال حوافز الإنتاج والابتكار وإضعاف القدرة التنافسية... هذا الفشل يدعونا إلى التفكير مجددا في مدى ملاءمة المساواة كمثل أعلى للعدالة

2-العدالة كإنصاف

يتضح مما سبق أن فكرة المساواة تتضمن مبدءا عاما وبسيطا بساطة العلاقات الرياضية كما يرى إرنست بلوخ، ولكنها لا تنشغل بمدى قدرة الناس على الاستفادة الفعلية من مبدأ المساواة، وباحتمال أن ينتج عن تطبيق المساواة خلاف المقصود أي الظلم أو خراب النظام!

لذلك يرى جون راولز –بناءا على فرضية الوضعية الأصلية وحجاب الجهل – أن نظاما عادلا لابد يقوم على مبدأي المساواة واللامساواة معا: المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية، واللامساوة الاجتماعية والاقتصادية، مثل اللامساواة في الثرورة والسلطة
بيد أن اللامساواة لا تكون عدلا وإنصافا إلا إذا استوفت شرطا وحققت غاية. فأما الشرط فهو استفادة الأقل حظا من ثمار هذه الثروة والسلطة، بواسطة مبدأ تكافؤ الفرص في لإمكانية جمع الثروة أو تبوأ المناصب كما يتجلى ذلك أيضا في دولة الرعاية من خلال تقديم خدمات ومساعدات اجتماعية للذين يعيشون الإقصاء على هامش نظام الرخاء لهذا السبب أو ذاك. وأما الغاية، فهي ضمان التعاون الإرادي والعمل المشترك من أجل الرخاء، ضمن ما يسميه راولز بالنظام المنصف للتعاون الاجتماعي.
نقول إذن أن الإنصاف – بخلاف المساواة- يهدف إلى مراعاة الفروق والتفاوتات وعدم طمسها أو تجاهلها إما بهدف مكافأة المجدين والمستحقين وتشجيع المنافسة، أو مساعدة الأقل حظا ونصيبا. وقد سبق لأرسطو في كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، أن ذهب إلى "أن العدالة مساواة، ولكن فقط بين المتكافئين؛ واللامساواة عدالة ولكن بين غير المتكافئين". ولكن ما مصدر عدم تكافئهما؟ أن الاستحقاق والتميز قد يدين بالفضل للانتماء الاجتماعي والرأسمال الرمزي أو المادي الذي يجد بعض المحظوظين أنفسهم مزودين به دون غيرهم وهم يخوضون غمار المنافسة مع الأنداد.
يختلف الإنصاف عن المساواة على مستوى آخر كما يختلف العام عن الخاص. يقول أرسطو: "تتجلى الطبيعة الخاصة للإنصاف في تصحيح القوانين كلما بدت هذه الأخيرة غير كافية بسبب عموميتها" ويدخل في هذا الإنصاف ما يسمى مثلا بــ "الاجتهاد القضائي" الذي يترك للقاضي في بعض الأحيان فرصة تكييف القوانين وفق ظروف النازلة ومستجدات العصر أو إعمال مبدأ الإنصاف عند سكوت النص القانوني؛ كما يدخل في باب الإنصاف أيضا "الميز الإيجابي" مثل تخصيص نسب مئوية من مقاعد المجالس النيابية للنساء، لأن تطبيق المساواة أظهر أن النساء ولأسباب سوسيوثقافية وتاريخية لا يستطعن أن يحرزن على أكثر من عشر المقاعد رغم أنهن يشكلن عدديا نصف المجتمع !
إذا كان الإنصاف فضيلة للمؤسسات لتجاوز عيوب المساواة، فإن الإحسان Charité هو تلك الفضيلة المطلوبة من الفرد عندما لاتفلح إجراءات المساواة والانصاف معا

الواجب

الواجب

نتوقف في البداية عند تعريف الواجب، ليس لأن تعريف الواجب مدخل إلى الدرس، فالدرس بأكمله بمثابة تعريف للواجب في تعالقه مع مفاهيم أخرى، ولكن لأن من مقتضيات دراسة قضية ما امتلاك تصور أولي حول دلالة المفردة المعبرة عن القضية...
يعرفه جميل صليبا في معجمه الفلسفي (ج2 ص 541-542)كالتالي: " الواجب ما تقتضي ذاته وجوده اقتضاءا تاما" بيد أن هذا تعريف عام يشمل المنطق والأنطلوجيا معا، أما التعريف الخاص الأقرب إلى مجزوءة الأخلاق فهو: " الواجب بوجه عام هو الإلزام الأخلاقي الذي يؤدي تركه إلى مفسدة... والواجب بوجه خاص قاعدة عملية معينة، أو إلزام محدد يتعلق بموقف إنساني معين كواجب الموظف في أداء عمله"
ونضيف مع إيريك فايل بأن الواجب يشكل المقولة الأساسية والوحيدة للأخلاق

المحور الأول: الواجب والإكراه

طرح الإشكال:

الواجبات كثيرة: أسرية، دينية، عرفية، وطنية، مهنية... وما إن يذكر الواجب، أو يتم تذكيرنا به وهذا هو الغالب، حتى يتبادر إلى ذهننا الإلزام والإكراه. وفي اللغة: وجب الشيء إذا ثبت ولزم؛ والواجب هو ما يقابل الجائز والممكن. وحيث أن الذات خاضعة لدوافع شتى، فإن ضرورة الواجب تنقلب إكراها وينقلب تصورها إلى أمر نسميه بالأمر الأخلاقي. بيد أن الواجب، من جهة أخرى، لا يُتصور دون حرية: فحرية الفاعل الأخلاقي هي التي نرتب عليها واجباتها، ولامعنى للواجب بالنسبة لحجر ساقط خاضع لقوانين حتمية و حيوان أعجم تقوده الغريزة!!
الإكراه إذن خاصية محايثة للواجب والحرية شرطه! فكيف نجمع بينهما؟ وإذا كان الواجب إكراها، والواجبات كثيرة، ألن يجعل ذلك من حياتنا جحيما لا يطاق ومعاناة للإكراه المستمر؟ وحيث أن الواجب يشكل المقولة الأساسية والوحيدة للأخلاق، فأي قيمة لهذه الأخلاقية التي ترزح تحت الإكراه وتتعارض مع أخص خصائص الإنسان أي الحرية؟ وبعبارة أخرى: هل المصالحة بين الواجب والحرية ممكنة؟



معالجة الإشكال:
ملاحظة: يتفق أغلب الفلاسفة على أن الواجب (الأخلاقي) لا يخلو من إكراه، فهو ليس فعلا تلقائيا عفويا، ليس غريزة أو رد فعل! وتنحصر المشكلة عندها في إعادة التوفيق بين الواجب والحرية


1-الحل الكانطي: الواجب إكراه يحقق استقلالية الإرادة

يقر كانط بأن "الضرورة الأخلاقية هي إكراه أي إلزام وكل فعل مؤسس عليها، يجب أن نتمثله بوصفه واجبا، وليس مجرد طريقة للفعل نرغب فيها الآن أو قد نرغب فيها مستقبلا"
فالواجب إذن إكراه بل قهر يمارسه العقل العملي على الميولات، لكنه إكراه حر لأنه يخلص الإرادة من ضغط وإلحاح هذه الميول ،فلا تخضع إلا لنفسها أو للواجب من حيث هو واجب. فتغدو بذلك إرادة طيبة حقا.
يرى كانط أن الإنسان حينما يخضع للقوانين التي يمليها الواجب الصادر عن العقل، فإنه حر مادام لا يخضع سوى لتشريعه الخاص، فهو يمنح نفسه قانونها في حين تتلقى الموجودات المادية قانونها من خارج على شكل حتمية طبيعية. لذلك تنص إحدى الأوامر المطلقة الكانطية على وجوب التصرف كما لو كنت مشرع القانون؛ ولما كان هذا الأمر كونيا، فإن الفرد يشارك بذلك في مملكة الإرادة بوصفها مملكة للحرية. هذه الإرادة التي تتميز بالاستقلال الذاتي، لأنها تشرع لنفسها في استقلال عن أية شروط أو غايات خارجية،
ولفهم الشرط الأخير لابد أن نميز – مع كانط - بين نوعين من الأوامر الأخلاقية؛ أوامر أخلاقية شرطية يتوقف أداؤها على النتائج التي المتوقعة منها كاللذة أو السعادة أو تقدير الآخرين.. أو أية منفعة أخرى، فتكون الواجبات في هذه الحالة مجرد وسائل لتحقيق غايات معينة؛ كأن نقول الصدق من أجل أن نكسب ثقة الناس؛ والنوع الثاني هو الأوامر الأخلاقية القطعية أو المطلقة، وهي تلك التي تنظر إلى الأفعال في ذاتها لا من حيث النتائج المترتبة عنها: كأن نقول الصدق دائما احتراما للواجب نفسه.
إذن فالقيام بالواجب من حيث هو واجب هو عين الحرية لأنه يخلص الإرادة من ضغط الميولات الحسية ولا يرهن غاياتها ودوافعها بالنتائج المترتبة عن الفعل الأخلاقي. ولكن هل تتوجه الأخلاق والواجبات الكانطية إلى الإنسان الواقعي، أم إلى صورة مجردة ومثالية للإنسان !؟

2- دوركايم: الواجب اكراه خارجي لكنه يتحول إلى موضوع رغبة
يتفق دوركايم مع كانط بأن الواجب يحمل قدرا من الإلزام والإكراه، لكنه لا يقتنع بالحل الكانطي لمشكلة الإكراه والمتمثل في تحويل الواجب إلى أمر مطلق وغير مشروط، بحيث نقوم بالواجب امتثالا للواجب، ذلك أنه من المستحيل حسب دوركايم السعي نحو هدف نكون فاترين تجاهه ولا يحرك حساسيتنا، وهكذا يجب أن نقبل بقسط من أخلاق اللذة لنفسر كيف أننا نشعر بنوع من الرضي والإغراء أثناء قيامنا بواجبات تحددت خارجنا وقبلنا.
وبعبارة أخرى، ففي الوقت الذي يعترف فيه دوركايم أن الوقائع الاجتماعية ومن أهمها الواجبات تتميز بالخارجية والقسر، لا يفوته أن يلاحظ أن الفاعل الاجتماعي لا يعي هذا الإكراه أو القسر المسلط عليها لأن الواجبات تحولت إلى موضوع رغبة، وعلى سبيل المثال، فالمقبل على الزواج مطالب بتنظيم طقوس الزواج والزفاف بطريقة معينة مفروضة ، ولكن الفاعل يتماهى مع الدور بحيث يصبح في امتثاله شيء من الرضي و اللذة والمتعة ونفس الشيء يمكن أن نقوله عن انتعال الحذاء الذي كان بالنسبة للطفل الصغير واجبا ثقيلا، فتحول لاحقا إلى موضوع رغبة واستمتاع، بل انضافت إلى قيمته الاستعمالية قيمة جمالية! أو ذاك الذي يهب في زمن الحرب بكل حمية وحماس للتطوع في الجيش امتثالا لواجب الوطنية... وغيرها من الأمثلة التي تظهر امتزاج الواجب بالرغبة وتطابقه أحيانا مع العواطف الشخصية، ولذلك يقول دوركايم في كتابه قواعد المنهج السوسيولوجي: "إنني حين أؤدي واجب كأخ أو زوج او مواطن ... أقوم بأداء واجبات خارجية حددها العرف والقانون وعلى الرغم من أن هذه الواجبات لا تتعارض مع عواطفي الشخصية (...) إن هذه الضروب من السلوك والتفكير لا توجد خارج شعور الفرد بل تمتاز أيضا بقوة آمرة قاهرة هي السبب في أنها تفرض نفسها على الفرد شاء أم أبى. حقا إني لا أشعر بهذا القهر حين أستسلم له بمحض إرادتي"
ينتج عن ذلك صفتان للواجب الأخلاقي: الصفة الأولى هي الإلزام لكن الصفة الثانية الملازمة له هي كونه موضع رغبة

خلاصة:

: إن الواجب الناتج عن الأمر الأخلاقي الكانطي المطلق ليس إذن إلا مظهرا مجردا من مظاهر الواقع الأخلاقي يغفل المظهر الملموس لهذا الواقع الذي ينكشف بالتحليل السوسيولوجي، لا مجرد التأمل العقلي. وبذلك فموقف دوركايم يختلف عن موقف كانط اختلاف المقاربة السوسيولوجية المنصتة إلى دروس الوقائع عن المقاربة الفلسفية المتسمة غالبا بنظرة تجريدية تقتضيها شمولية المنظور الفلسفي

المحور الثاني: الوعي أو الحس الأخلاقي


طرح الإشكال:
يمكن للأخلاق أن "تتموضع" في الخارج، فتكون موضع خطب ووعظ، كما يمكن تدوينها بالحبر على الأوراق أو بالنقش على الحجر، لكنها توجد قبل هذا وذاك على شكل وعي تمتلكه الذات به تميز بين الخير والشر وتضفي صبغة أخلاقية على أفعالها أو أفعال غيرها. ويبدو هذا الوعي الأخلاقي حسا داخليا عميقا على شكل ضمير أخلاقي أو صوت منطلق من أعماق النفس، يأمر وينهى، يؤنب و ويرضى.. هل يعني ذلك أن الحس الأخلاقي غريزة منقوشة في جبلة الإنسان ومن ثمة خالدة ولازمنية، ام أنه ظاهرة إنسانية كباقي الظواهر لها نشأة وتاريخ؟ وبعبارة مختصرة: ما مصدر الحس الأخلاقي؟

معالجة الإشكال:

1-الحس الأخلاقي فطري مطبوع في الجبلة-روسو

في إطار فلسفة الأنوار ونزعتها الإنسية الرامية إلى جعل الإنسان الفرد مرجعا لكل القيم بما فيها القيم الأخلاقية، يندرج التصور الروسوي الذي يرجع الحس الأخلاقي إلى مبادئ فطرية خالدة مطبوعة في الجبلة. وقد عبر كانط عن فطرية الوعي الأخلاقي في قولته الشهيرة التي استلهم فيها روسو: "شيئان يملآن القلب إعجابا متجددا متزايدا: السماء المرصعة بالنجوم فوقي والقانون الأخلاقي بداخلي"
يقول روسو إذن بوجود مبدأ فطري للعدالة والفضيلة في أعماق النفس البشرية، تقوم عليه رغم مبادئنا الشخصية أحكامنا التي نصدرها على أفعالنا وأفعال الغير فنصفها بالخيرة أو الشريرة.
لا ينكر روسو بأن الأحكام الأخلاقية مكتسبة وخارجية المصدر، لكن الإحساس الذي بموجبه نقدر ونقوم هذه الأفكار يظل فطريا، ثم إن هذا الوعي الأخلاقي أحاسيس وجدانية وليس أحكاما عقلية، إذ لو انتظرت الأخلاق نشوء التفكير العقلي لهلكت البشرية!! ويتصل هذا الإحساس بغريزتين أو عاطفتين أصيلتين هما حب الذات التي يحفظ الفرد بقاءه؛ ثم الشفقة التي تتجه إلى حفظ النوع إذ تمنع المرء من إلحاق الأذى بالغير مجانا أو رؤية الكائنات الحاسة تتألم. وقد ظلت هاتان الغريزتان مرشدتا الإنسان الوحيدتين طيلة حالة الطبيعة استغنى بهما عن القوانين و الأخلاق والفضيلة.
إن الوعي أو الحس الأخلاقي ليس فطريا فحسب، بل خالد وأزلي وصائب على الدوام، ولذلك يخاطبه روسو قائلا: " أيها الوعي ! أنت أيتها الغريزة الإلهية الخالدة، والمرشدة المضمونة لإنسان جاهل ومحدود النظر، أيتها الغريزة المعصومة في تمييزها بين الخير والشر"
ومن المنطقي أن يخلص روسو إلى فطرية الضمير الأخلاقي مادام ينظر إلى الإنسان ككائن طيب بالطبيعة شرير بالاجتماع الذي أفقده براءته و طيبوبته الأصليتين. ولكن ألا يسقط هذا التصور في اللاتاريخية من خلال تجاهله لنسبية الوعي الأخلاقي وللظروف التاريخية والعوامل الاجتماعية التي تقف وراء نشأة هذا الوعي؟ وهي العوامل التي تشدد عليها كل من المقاربتين الفرويدية والماركسية للوعي الأخلاقي.


2- نشوء الحس الأخلاقي وتاريخيته:

من الصعب القبول بفطرية الضمير الأخلاقي انطلاقا من التحليل الفرويدي، لأن الفطري هو "الهو" الذي يمثل الشكل الأصلي للجهاز النفسي كما يظهر عند الميلاد، وهو المادة الأولية للتمييزات اللاحقة. وهذا الهو يخضع فقط لمبدأ اللذة ويجهل تماما مبدأ الواجب الذي هو عنوان الضمير الأخلاقي. لذلك لا يمكننا الحديث عن ضمير أخلاقي قبل ظهور الأنا الأعلى التي ينتج عن اصطدام الأنا بالقيم والضوابط الأخلاقية للمحيط الاجتماعي.
وبنمو الوعي الأخلاقي يظهر الإحساس بالذنب وأشكال التوتر والقلق الذي تتولد في النفس نتيجة التعارض القائم بين متطلبات الأنا الأعلى وميولات الأنا المدفوع بالهو. كما أن الأشكال المرضية الدالة على قسوة الأنا الأعلى وسلطته كالسوداء والمازوشية والوسواس... هي أيضا مؤشرات على ضمير أخلاقي لكنه ضمير متضخم.
إذا كان فرويد يقدم مقاربة لنشوء الضمير الأخلاقي الفردي كانعكاس للوعي الأخلاقي للمجتمع، فإن الماركسية تفسر كيف ينشأ هذا الوعي على مستوى المجتمع نفسه. وبما أنه جزء من البنية الفوقية، فإنه لن يكون غير انعكاس للبنية التحتية أي لمستوى معين من تطور قوى الإنتاج، لذلك تحمل الأنظمة الأخلاقية بدون شك مدلولا طبقيا فتصبح جزءا من الأيديلوجية وظيفتها تبرير الهيمنة وتزييف الوعي الاجتماعي.
لكل مرحلة من مراحل التطور الاقتصادي نظريات أخلاقية مطابقة لها. وعلى سبيل المثال، فانطلاقا من اللحظة التي تطورت فيها الملكية الفردية للأشياء المنقولة صار لزاما على المجتمعات أن تعرف الأمر الأخلاقي القائل: " لا تسرق" ولكن لا معنى لهذا الأمر في مجتمع تغيب عنه الملكية الخاصة كما في المشاعية البدائية ! كما يقول انجلز؛ كما أن أمرا باحترام الملكية الفكرية للأعمال الفنية لا معنى له إلا عندما تتحول الأعمال الفنية إلى سلع خاضعة لقوانين الإنتاج والتسويق.
على هذا الأساس يرفض انجلز كل رأي مزعوم يحاول فرض نظام أخلاقي دوغمائي كيفما كان باعتباره قانونا خالدا ، ثابتا ونهائيا يعلو على التاريخ.


المحور الثالث: الواجب والمجتمع


طرح الإشكال:
مادام المجتمع هو منبع الواجبات ومصدر القوة التي تصاحبها، فهل ينتج عن ذلك أن واجباتنا مقتصرة على أبناء مجتمعنا أو جماعتنا التي لقنتنا لائحة واجباتنا، و أن الواجبات نسبية ومحلية، أم أن الواجبات كونية و أننا ملزمون بواجبات تجاه الإنسانية جمعاء الحاضرة والمقبلة أي تجاه الأجيال القادمة بدورها ؟ ألا تتعارض واجباتنا والتزاماتنا تجاه جماعتنا ومجتمعنا مع واجباتنا والتزاماتنا تجاه الإنسانية

معالجة الإشكال:

1- الواجب صوت المجتمع

إذا كان الإنسانية قد مالت إلى تفسير القوة الآمرة الرهيبة لصوت الواجب الذي يتردد مجلجلا بداخل الفرد تفسيرا أسطوريا يربطه بكائنات علوية، فإن صوت الواجب والضمير عند دوركايم ليس شيئا آخر غير صوت المجتمع الذي هو كائن معنوي يتجاوز الأفراد ويؤثر فيهم ويحيى داخل ذواتهم، ويمارس عليهم نوعا من القهر والإكراه الخفي. إن المجتمع بهذا المعنى ، هو جزء لا يتجزأ من الذوات الفردية التي لا تستطيع أبدا الانفصال عنه؛ فهو الذي بث فيها تلك المشاعر والمعايير التي تمنح بالضرورة لقواعد السلوك الفردي صفة الإكراه المميزة للإلزام الأخلاقي كما تحدد لها واجباتها الأخلاقية، أي ما ينبغي عليها فعله وما يجب تجنبه. لكن إذا كان الواجب يرتبط بالمجتمع و بإكراهاته، فإنه بذلك يسقط في الانغلاق والنسبية؛ مادام أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية والحضارية التي تميزه عن باقي المجتمعات. كما أن الواجب في هذه الحالة من شأنه أن يؤدي نوع من الصدام الحضاري، والصراع الفكري والأخلاقي بين الأمم والشعوب. وهذا صحيح إلى حد ما، فالأمر الأخلاقي "لا تقتل!" غالبا ما يفقد صلاحيته إذا تعلق الأمر بفرد من خارج الجماعة التي لقنت للفرد هذا الأمر. وهناك ثقافات تجيز صراحة لأفرادها قتل أو استعباد أو التنكيل بمن لا ينتمون إلى الجماعة! ولذلك يقول داروين: "تعد الأفعال لدى المتوحشين وربما كذلك لدى الإنسان البدائي خيرة أو شريرة فقط إذا كانت تؤثر بوضوح في حسن حال القبيلة -وليس النوع البشري أو العضو الفرد في القبيلة. تتفق هذه النتيجة مع اعتقاد فحواه أن الحس الخلقي في منبته مشتق من الغرائز الاجتماعية، لأن كليهما يرتبط أولا وحصريا بالمجتمع". وبالمثل فإن شعور المرء بالشفقة وبوجوب الإحسان للفقير يختلف حسبما إذا كان هذا الأخير من ذوي القربى أو من نفس المجتمع أو فردا في مجتمع مخالف لي في الملة أو العرق او اللغة. ولكن، وفي ظل مناخ العولمة الاقتصادية والثقافية وتحول الكوكب إلى قرية صغيرة بفضل ثورة وسائل الاتصال، وتوحد مصائر البشرية والكوكب... ألم يعد ملحا التشديد على الطابع الكوني للواجبات الأخلاقية وإخراجها من انغلاقها لتنفتح على القيم والواجبات الإنسانية حفظا لمصالح البشرية؟

2- واجباتنا نحو الإنسانية والكوكب والأجيال القادم

كيف يمكن أن نرتقي بالأخلاق إلى مستوى الكونية ونخرجها من انغلاقها لتنفتح على القيم والواجبات الإنسانية؟ لا يكاد هذا السؤال يطرح بالنسبة لأخلاق على الطراز الكانطي، فالواجبات بالتعريف كونية تتخذ الإنسانية موضوعا لها في شخص كل فرد على حدة. ولكن المطلب الكانطي يشكل في الحقيقة تحديا كبيرا لمفهوم الواجب نفسه، فهذا الأخير يحمل آثار أصله – أي المجتمع – ويتقوقع بالضرورة داخل حدوده. وإذا كان المجتمع وبعد جهد جهيد قد استطاع أن ينتزع من الفرد سلوكا غيريا نحو أبناء الجماعة كما يقول فرويد، فكيف له أن يطمع في مطالبته بسلوك غيري يشمل الإنسانية جمعاء !؟
ومع ذلك، يبدو أن كونية الواجبات لم تعد مجرد مطلب نظري في الفلسفة الأخلاقية، بل غدت ضرورة حيوية ملحة تشغل غير الفلاسفة بدورهم: فالتهديدات البيئية والاجتماعية والسياسية أصبحت تتجاوز حدود دولة أو مجتمع أو جيل، مما دفع جون راولز مثلا إلى أن يفرد لواجباتنا تجاه الأجيال القادمة حيزا داخل نظريته حول العدالة. يقول راولز: " من البديهي أنه إذا كان على الأجيال القادمة أن تستفيد، فإن على الشركاء أن يتفقوا على مبدأ توفير يضمن لكل جيل أن يتلقى ما يستحق من سابقيه، كما أن عليه أن يلبي بطريقة منصفة متطلبات لاحقيه. ومن أجل تحقيق توفير عادل، يتعين على الشركاء أن يتساءلوا عن الكمية التي يقبلون بتوفيرها في كل مرحلة من مراحل النمو [لمصلحة الأجيال القادمة]"
هناك إذن واجب على أفراد الجيل الحالي يقتضي التوفير أي عدم الإسراف و استنزاف كل الموارد المتاحة جريا وراء مستويات من الرفاهية لا تعرف الحدود لأن من شأن ذلك أن يغامر بمستقبل الأجيال القادمة.
ثم إن الواجبات تجاه الإنسانية لا تقتصر على المحافظة على البيئة الطبيعية الكوكب التي هي ملك مشترك لسكانه ولأجياله، بل المحافظة أيضا على تراثه، وهذا ما تجلى في تعيين مواقع أثرية أو طبيعية كتراث إنساني من طرف اليونسكو.

الدولة ( منقول)

الدولة
المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها
طرح الإشكال:

السلطة ظاهرة محايثة للاجتماع البشري. ومادامت السلطة تقتضي الامتثال والخضوع، فإنها تحتاج دوما إلى تبرير وشرعنة، بما في ذلك سلطة الأب على أبنائه! هكذا يجد كل ذي سلطة نفسه مطالبا دائما بتبرير سلطته، وعندما تتخذ السلطة شكل دولة، فإنها تواجه بدورها سؤال التبرير والمشروعية:
لماذا الدولة؟ وما غايتها؟ ما علاقتها بالأفراد المكونين لها؟ هل تستمد الدولة من الفرد مبدأ وجودها أم أن الفرد هو الذي يستمد من الدولة مبدأ وكمال وجوده؟ هل الدولة في خدمة الفرد أم الفرد في خدمة الدولة؟

معالجة الإشكال:

1- موقف التصور التعاقدي والمذهب الفرداني: الفرد غاية الدولة
للبحث في مشروعية الدولة وتعيين غاياتها يلجأ التصور التعاقدي إلى البحث أولا في منشئها، انطلاقا من فرضية حالة الطبيعة. يقول لوك: " لكي نفهم السلطة السياسية فهما صحيحا ونستنتجها من أصلها ينبغي أن نتحرى الحالة الطبيعية التي وجد عايها جميع الأفراد" هنا تظهر الدولة كمجرد اتحاد بين أفراد يتمتعون بحقوق طبيعية سابقة زمنيا على ظهور الدولة رغبوا لهذا السبب أو ذاك في تيسير العيش المشترك، وأولى حقوقهم هي إرادتهم التي جسدوها في هذا العقد. ينتج عن ذلك أن لا حقيقة ولا وجود للدولة قبل الفرد، الفرد مقدم و سابق عليها، منه تستمد مبرر وجودها ومن ضمان مصالحه تشتق غاياتها. ولذلك يقترن التصور التعاقدي أحيانا بالمذهب الفردي وأحيانا أخرى بالليبرالية
ماذا ينتظر من الدولة؟ وما غاياتها؟
يميز جون لوك بين الخيرات المدنية والخيرات الدينية أو نجاة الأرواح. وتتمثل الأولى في خيرات ذاتية كالحياة والحرية وسلامة البدن وخيرات خارجية كالأرض والنقود وما سواها من الممتلكات، أما الخيرات الدينية فهي تقوى النفس ونجاتها من الضلال والشقاء الأبدي في الآخرة. و اختصاص الدولة بوصفها سلطة مدنية يقتصر على حماية الخيرات المدنية أما ترامي سلطانها إلى الخيرات الدينية فلن ينجم عنه سوى الحرب وتقويض السلم المدني

2- موقف التصورات الكليانية: الدولة غاية ذاتها
بيد أن تقديم الفرد على الدولة - كما رأينا مع التصور التعاقدي والليبرالي- لا يعني عند بعض الفلاسفة سوى خراب هذه الأخيرة! إذ كيف يعقل أن يستمد مبدأ الكل من الجزء والدائم من العرضي؟
تتمثل غاية الدولة عند أفلاطون في تحقيق السعادة، لا بوصفها سعادة الفرد، بل بوصفها نظام وانسجام الكل: وعليه لا يعدو الأفراد عن كونهم مجرد لوالب في جوف هذه الآلة الضخمة المسماة دولة، يقومون بمهام تتناسب وطبائعهم التي ولدووا بها، ينتجون وينجبون ويحاربون من أجل الدولة. فلا قيمة لرغباتهم أو مسراتهم أو أحزانهم أو عواطفهم إلا بما يحقق لهذه الأخيرة النظام والانسجام.
وفي العصر الحديث، يرفض "هيجل" بدوره التصور التعاقدي السابق لكونه يجعل غاية الدولة "خارجية " عندما يحصرها في تحقيق السلم والحرية وحماية ممتلكات الأفراد. فالدولة بهذا المعنى ستكون مجرد وسيلة لتحقيق أهداف خارجة عنها، أهداف يعتبرها "هيجل" خاصة بالمجتمع المدني، كمجال لإشباع حاجيات الأفراد اليومية والانتاج الاقتصادي وللتنافس بينهم في ظل تعارض مصالحهم الخاصة، في حين أن الدولة تمثل غاية في ذاتها بوصفها تجسيدا للمطلق. و ككيان ينتزع الفرد من الخصوصية والأنانية ليسمو به إلى مستوى الكونية ويحقق اكتماله الأخلاقي، وذلك لأنها هي الجوهر الأخلاقي وقد وصل إلى الوعي بذاته.
نخلص إلى أن هيغل يقدم الدولة على الفرد ويجعلها سابقة على الأسرة والمجتمع المدني نفسيهما لأن فكرتها محتوية لهذين العنصرين معا: ففي حضن الدولة فقط تستطيع الأسرة أن تتحول إلى مجتمع مدني.
ويبدو أن الماركسية لم ترث عن الهيغيلية منهجها الدياليكتيكي فحسب، بل تصورها الكلياني للدولة بإسم أولوية الجماعة على الفرد، وانتهت إلى صهر هذا الأخير وإلغائه لصالح الدولة وأجهزتها البيروقراطية والبوليسية: لقد غدت الدولة فعلا غاية في ذاتها وهذا ما تجلى واضحا في بعض الأشكال الواقعية للدولة في الكثير من البلدان الاشتراكية ودول العالم الثالث


المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية


طرح الإشكال:

وفق أي منطق وبموجب أي مبدأ تمارس السلطة السياسية؟ هل يمكن أن تنضبط هذه السلطة للمبادىء الأخلاقية، أم أن منطق العمل السياسي وإكراهاته يتعارض كليا مع منطق الأخلاق وإلزاماتها وقيودها، على أساس أن السياسة مجال الممكن، والأخلاق مملكة الواجب؟ ماهي غاية الفعل السياسي؟ الفضيلة أم الفعالية ؟

معالجة الإشكال:

1- التصور الأخلاقي لطبيعة السلطة السياسية: السياسة رفق واعتدال
بتأثير من أرسطو، وإلى حدود الفلسفة الحديثة، سيطرت على الفلسفة السياسية مقولة الاعتدال ضمن تصور يعتقد في وحدة الأخلاق والسياسة على أساس أن السياسة هي المجال الأوسع للممارسة الأخلاقية وأنها كمال الفلسفة العملية بوصفها تدبيرا للمدينة يتوج تدبير النفس و تدبير للمنزل معا. وقد عبر عن ذلك أستاذه أفلاطون حينما تمنى أن يكون الحاكم فيلسوفا أو أن يصير الفلاسفة حكاما ليحصل الجمع بين السلطة والحقيقة، مادام الفلاسفة على حد تعبير أفلاطون هم أصدقاء وحلفاء الحقيقة والعدالة والشجاعة والعفاف، أصحاب العقول المولعة دائما بالعلم الذي يتناول الدولة بكاملها ليقيم تنظيمها الداخلي على أفضل وجه ممكن مستلهما قوانين الجمال والخير والعدل
في إطار هذا التصور الأخلاقي للمجال السياسي وللسلطة السياسية، يوصي ابن خلدون أن تكون العلاقة بين السلطان والرعية مبنية على الرفق في التعامل: فقهر السلطان للناس وبطشه بهم يؤدي إلى إفساد أخلاقهم، بحيث يعاملونه بالكذب والمكر والخذلان، أما إذا كان رفيقا بهم ، فإنهم يطمئنون إليه ويكنون له كل المحبة والاحترام، ويكونون عونا له أوقات الحروب والمحن.
كما يتوجب عليه التحلي بالاعتدال الذي هو الوسط بين الذكاء بما هو إفراط في الفكر والبلادة بما هي إفراط في الجمود مثلما أن الكرم وسط بين التبذير والبخل، والشجاعة وسط بين التهور والجبن من جهة أخرى.
← هكذا فإن ابن خلدون يحدد طبيعة السلطة السياسية في التشبث بمكارم الأخلاق المتمثلة أساسا في الرفق والاعتدال. ولكن إلى أي حد تستطيع الأخلاق أن تنسجم وطبيعة السلطة السياسية في الممارسة العملية؟

2- التصور البراغماتي الواقعي لطبيعة السلطة السياسية:
أحدث كتاب "الأمير" قطيعة مع الفلسفة السياسية السابقة ذات المنحى الطوباوي المثالي، فلم يعد السؤال عند ميكيافيلي هو "كيف تمارس السلطة وفق المبادئ الأخلاقية أو الدينية؟" ، بل السؤال هو: "كيف يمكن الحصول على السلطة والمحافظة عليها؟" لذلك ينصح ميكيافليي الأمير باستخدام طريقتين من أجل تثبيت سلطته السياسية: الأولى تعتمد القوانين ولكنها غير موفية بأغراض الحكم، أما الثانية فتعتمد على القوة والبطش، جنبا إلى جنب مع المكر و الدهاء. وإذا استخدمنا استعارة لا تخلو من دلالة من مملكة الحيوان، فعلى الأمير أن يكون أسدا قويا لكي يرهب الذئاب، وأن يكون ثعلبا ماكرا لكي لا يقع في الفخاخ.
وقد تبين من شواهد التاريخ حسب ميكيافلي أن هناك أمراء أصبحوا عظماء دون أن يلتزموا بالمبادئ الأخلاقية السامية، كالمحافظة على العهود مثلا، بل قد استخدموا كل وسائل القوة والخداع للسيطرة على الناس والتغلب على خصومهم.
يعترف ميكيافيلي بأن مبادئ السلطة السياسية التي يبشر بها ستكون شريرة، ولكن في حالة واحدة وهي تلك التي يكون فيها جميع الناس أخيارا ! والواقع أنهم ليسوا كذلك، ومن ثم لا يلزم أن ينضبط الأمير للمبادىء الأخلاقية في تعامله معهم، بل لا بد أن تكون له القدرة الكافية على التمويه والخداع، وسيجد من الناس من ينخدع بسهولة. وقد صور شكسبير بشكل رائع سهولة انخداع العامة في مسرحية "يوليوس قيصر" حيث تناوب الخطيبان بروتوس وأنطونيوس على تجييش مشاعر العامة لصالحه رغم أن أولهما قاتل قيصر والثاني صديقه المنادي بالثأر له !!
هكذا يتبين أن السياسة، مع ماكيافيلي، تنبني على القوة والمكر والخداع.


المحور الثالث: الدولة بين الحق والعنف


طرح الإشكال:
يمثل العنف العدو المعلن لكل دولة. فما من دولة في الماضي أو الحاضر إلا ورفعت شعار استتباب الأمن والنظام والعدالة والحق ، وبعبارة أخرى محاصرة نواتج العنف من رعب وفوضى وظلم ، ولكن هل يمكن للدولة أن تحاصر العنف وتواجهه إلا بعنف مضاد أشد هولا ؟ وفي هذه الحالة كيف نضمن مشروعية هذا العنف وقد غدت الدولة خصما وحكما في نفس الوقت ؟

معالجة الإشكال:

1- الدولة واحتكار الاستعمال المشروع للعنف
من المفيد في البداية أن نرفع بعض اللبس: لا تمثل الدولة المصدر الوحيد للعنف، فالمجتمع ينتج ويفرز بدوره عنفه الخاص، سواء تعلق الأمر بالعنف المعزول للأفراد كالمجرمين أو عنف الجماعات ضد بعضها البعض بسبب الطابع الانقسامي للمجمتع ( انقسامه إلى طبقات اقتصادية، أحزاب سياسية، إثنيات، مشجعي الفرق الرياضية...)
ورغم أن الدولة تعلن العنف عدوها اللدود، فإنها لا تستطيع مع ذلك مواجهته إلا بمثله أي بعنف مضاد، ولذلك لم يجد ماكس فيبر من خاصية يعرف بها الدولة غير هذه الخاصية: "احتكار الاستعمال المشروع للعنف". صحيح أن العنف ليس الوسيلة الوحيدة للدولة لكنه وسيلتها الخاصة بحيث تقوم بينها وبينه علاقة حميمة، خصوصا بالنسبة للدولة المعاصرة التي خلقت لنفسها طبقة بيروقراطية ينفصل فيها المنصب عن الموظف الذي يسميه فيبر "خادم الدولة الحديثة"، فغدت الدولة من حيث هي أجهزة متمايزة عن المجتمع، مما اقتضى تجريد جميع أفراد المجتمع وهيئاته من حق استخدام العنف: وهكذا لم يعد هناك سيد ليجلد عبده أو إقطاعي يعاقب أقنانه، أو زوج ليضرب زوجته وأبناءه، وتزامن كل ذلك مع نزع الطابع العنيف عن العقوبات القضائية الماسة بالسلامة الجسدية والاكتفاء بتلك العقوبات السالبة للحرية.

2- الدولة والعنف: علاقات ملتبسة
لا مراء في أن الدولة المعاصرة تدعي لنفسها قانونيا احتكار الاستعمال المشروع للعنف، ولا يوجد اعتراض على مبدأ الاحتكار في حد ذاته، بيد أن ممارستها لهذا الشيء المحتكر لا تخلو واقعيا من مفارقات حتى في أكثر الدول ديموقراطية.
تتعلق المفارقة الأولى بثنائية الشرعية والمشروعية: من اليسير على الدولة أن تثبت أن العنف الممارس ضد فرد أو جماعة كان شرعيا محتجة بحفظ النظام أو استباق المخاطر... ولكن هل كان عنفا مشروعا؟ بل هل كان ضروريا؟ وفي هذه الحالة، هل مورس ضمن الحدود التي لا تتعارض فيها مع حقوق الإنسان وكرامته؟
تقحمنا هذه الأسئلة في قلب المفارقة الثانية المتعلقة بكمية العنف اللازم لمواجهة عنف الأفراد والجماعات: كيف يمكن تقدير كمية العنف لوقف عنف مشجعي فريق رياضي غاضبين؟ هل يحتاج الأمر إلى عنف أكبر من عنفهم أم أقل منه أو مساو له ؟ تلك هي الأسئلة التي تواجه السلطة القضائية باستمرار.
ومن جهة أخرى، وبسبب احتكارها وتكديسها لوسائل وتقنيات العنف المعززة بتكنلوجيا تزداد تطورا يوما بعد يوم، تتحول الدولة إلى نوع من الليفياتان/التنين، إلى عنف بدون حق خصوصا في غياب إمكانية اللجوء إلى قاض ضمن فصل واضح للسلطات.
وأخيرا فإن احتكار الدولة للعنف المشروع لا يكتسي كامل معناه عند فيبر إلا من واقعة استقلالها عن المجتمع وتناقضاته، ولكن ما حقيقة استقلال الدولة عن المجتمع وحيادها؟ هل تقتصر وظيفتها على التنظيم والتدبير المحايدين والمستقلين عما يعرفه المجتمع من نزعات وانقسامات وتناقضات؟
تشكك الماركسية في هذه الاستقلالية المزعومة، لتخلص أن العنف المحتكر من قبل الدولة لن يكون مشروعا أبدا في ظل مجتمع منقسم طبقيا. ذلك إن تناقض المصالح الطبقية وما ينجم عنه من صراع يهدد بتيديد المجتمع قد فرض الحاجة إلى الدولة كسلطة عليا تضع نفسها ظاهريا فوق المجتمع لتقلل من حدة الصراع وتبقيه ضمن حدود النظام أي فرملة التناقضات القائمة بين طبقات المجتمع. غير أن الدولة وقد تولدت في قلب الصراع، فلن تكون سوى دولة الطبقة المسيطرة اقتصاديا وأداة أخرى من أدوات تيسير مهمة الاستغلال بالوسائل العنيفة ان اقتضى الأمر. إنها عنف طبقة ضد أخرى